انتهت الانتخابات الرئاسية المصرية بإعلان نتائجها أمس (الاثنين) كما كان متوقعا لها بفوز عريض للرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي ليكمل دورة ثالثة وأخيرة تنتهي في أبريل 2030.
ورغم أن هذه النتيجة كانت متوقعة على نطاق واسع ولم تحمل أي قدر من المفاجئة نظرا للفارق الكبير والهوة الشاسعة بين قدرات وخبرات ومؤهلات وشعبية بقية المتنافسين مقارنة مع المرشح الفائز، إلا أنها لم تخل من المفاجأة، فباستثناء النتيجة التي حصل فيها المرشح الفائز على 89.6% من الأصوات الصحيحة، كانت بقية الأرقام والإحصاءات التي أفرزتها هذه الانتخابات بمثابة مفاجأت لم تخل من رسائل واضحة.
المفاجأة الأولى كانت في نسبة التصويت التي تجاوزت 66.8% من مجموع الناخبين، وهي أعلى نسبة مشاركة في تاريخ مصر قديمه وحديثه، وأعلى نسبة مشاركة في كافة الاستحقاقات الانتخابية المصرية سواء كانت انتخابات محلية أو تشريعية أو رئاسية أو استفتاءات على إقرار أو تعديل دساتير منذ إقرار الإشراف القضائي على الانتخابات عام 2000.
لم يتوقع أي من المراقبين أو المحللين هذه النسبة من المشاركة بالنظر إلى عدة عوامل أهمها السلوك التصويتي للمصرين، والخبرة التاريخية في التصويت التي لم تتجاوز حاجز نسبة الـ51% في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الأكثر تنافسية في تاريخ مصر والتي جرت عام 2012. فتلك الانتخابات التي كانت تجري في سياق سياسي أكثر سيولة ومجال عام أكثر انفتاحا وتأثرا بالحراك الشعبي الذي جرى قبل عام من انعقادها، لم تتجاوز نسبة المشاركة في جولتها الأولى 46% رغم كل الحشد والتعبئة الذي تم لها ورغم امتلاك الإخوان المسلمين وقتها لماكينة وإمكانيات انتخابية ودعائية وتعبوية هائلة، ورغم شدة المنافسة وكثرة عدد المتنافسين والتي بطبيعتها تؤدي تلقائيا لزيادة نسبة التصويت، وفي انتخابات 2018 والتي كانت فيها التحديات الاقتصادية أقل بكثير مما هي عليه الآن كانت نسبة المشاركة 47%.
أما انتخابات 2014 والتي كانت أول انتخابات تجري بعد ثورة 2013 والتي كان هاجس استعادة الأمن والنظام ومسار الدولة هو المسيطر على أجوائها لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 41%، أما أول انتخابات رئاسية في تاريخ مصر كله والتي نظر إليها على أنها حدثا تاريخيا نقل مصر من نظام الاستفتاء على شخص الحاكم إلى حرية انتخابه فلم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 23%، وإزاء هذه الخبرة التاريخية لسلوك المصريين التصويتي، وفي ظل انخفاض أجواء التنافسية في الانتخابات الأخيرة وفي ظل تعاظم التحديات الاقتصادية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة كان أكثر المتفائلين يمني النفس أن تشهد الانتخابات الرئاسية المنقضية نفس نسب المشاركة المعتادة في الدورات الانتخابية السابقة عليها، وأعظمهم تفاؤلا كان يحلم بأن تكسر نسبة المشاركة حاجز الـ50%، فإذا بالنتيجة تفاجئ المختصين والمتابعين قبل البقية بحجم مشاركة قارب 45 مليون ناخب من بين نحو 67 مليون مواطنا لهم حق الاقتراع.
تحمل نسبة المشاركة التاريخية هذه رسائل عدة ودلالات بالغة بالنظر إلى توقيتها وسياقها، أبرزها الوعي العميق للمصريين بطبيعة المخاطر الجيوسياسية والتحديات الأمنية المحيطة بالدولة المصرية في هذا التوقيت جراء ما يحدث في الإقليم وتحديدا في غزة وما يتم الترويج له على نطاق واسع عن مخطط لتهجير فلسطيني غزة إلى سيناء المصرية، وما يحمله ذلك من تهديد صريح ومباشر للأمن القومي المصري، وهذا ما أدركه وتحدث عنه الرئيس المصري منذ بداية الأزمة واعتبره خطا أحمر حينما قال في أكتوبر الماضي "إن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء يعني نقل القتال إليها وستكون قاعدة لضرب إسرائيل، مضيفا أن حصار قطاع غزة هدفه في النهاية نقل الفلسطينيين إلى مصر".
وهنا عادت اعتبارات الأمن القومي والالتفاف حول ركائز الدولة الوطنية ومسببات بقائها هي المحدد الأول للسلوك التصويتي للمصريين، متناسين التحديات والصعوبات الاقتصادية رغم قسوتها، ولعل هذا ما يفسر أيضا قلة عدد الأصوات الباطلة التي تراجعت بشكل كبير مقارنة بالدورات الانتخابية السابقة التي كانت تحوز فيها على المركز الثاني في نسب التصويت وقبل بقية المرشحين كما حدث في عامي ، 2014، وكذلك انتخابات 2018 التي شهدت أكبر نسبة من الأصوات الباطلة في أي انتخابات شهدتها البلاد بمجموع مليون و762 ألف صوتا وبنسبة تتجاوز 7% من إجمالي أصوات الحضور، فيما حصل وقتها المرشح المنافس على 2.9% فقط من الأصوات، الأمر الذي تحول لظاهرة مصاحبه للانتخابات الرئاسية.
وأصبح البعض يشير إليها تهكما بتساؤل حول صاحب المركز الثالث في الانتخابات بعد الأصوات الباطلة، في إشارة إلى موقف سياسي دفع أصحاب هذه الأصوات لإبطالها، لكن في الانتخابات الأخيرة تغيرت المعادلة وانقلبت رأسا على عقب بعد أن جاءت الأصوات الباطلة في المركز الأخير بنسبة 1.1% من مجموع الأصوات، وهي أقل نسبة أيضا في تاريخ الانتخابات المصرية.
المفاجأة الثانية تمثلت في ترتيب بقية المرشحين بعد المرشح الفائز، حيث حل رئيس الحزب الشعب الجمهوري حازم عمر ثانيا وحل رئيس الحزب المصري الديمقراطي ثالثا، وهما حزبين حديثي النشأة نسبيا ولا يحظيان بقاعدة جماهيرية واسعة أو كوادر حزبية متمرسة، بعكس حزب الوفد العريق الذي حل ممثله ورئيسه عبد السند يمامة في المركز الأخير بنسبة أصوات لم تتجاوز 1.9%، وهي نسبة مسيئة ومهينة لأعرق الأحزاب المصرية وأقدمها وأكثرها تمرسا في العمل السياسي والحزبي ولا تتناسب إطلاقا مع تاريخه ولا شعبيته، وتستدعي على الفور مناقشة هذه النتائج ومحاسبة كل من تسبب في هذه الخسارة التاريخية وما يقتضيه ذلك من رؤية جديدة ضرورية، ومراجعة جذرية للهيكل والقواعد التنظيمية للحزب وآليات عمله وآليات اختيار كوادره ومرشحيه في الانتخابات وطرق تواصله مع قواعده الجماهيرية التي لم تصوت لمرشح حزبها حتي في معاقله التقليدية التاريخية في أرياف مصر ومحافظات الدلتا، خطوة المراجعة هذه ضرورية ولا غنى عنها حتى تتكرر أزمة الوفد الشهيرة في عام 2005 التي انفجرت ووصلت لحد استعمال العنف وحصار المقر بعد خسارة مرشح الحزب وقتها نعمان جمعة انتخابات الرئاسة أمام الرئيس الأسبق حسني مبارك بنسبة هزيلة، كما تنبع ضرورتها من أن لا أمل في حياة حزبية سليمة وصحية في مصر بدون أعرق وأهم أحزابها.