وبغض النظر عن سياق ودلالة التعبير وقتها، فإن ذلك كان تعبيرا عن واقع بالفعل وليس مجازا لغويا، فأميركا التي ورثت المكانة الأوروبية ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تنفصل عن أسلافها، حتى لو أصبحوا "عجزة" وظلت هي شابة.

ولأن الشباب لا يدوم، فقد ظهرت أعراض الإرث الأوروبي على الولايات المتحدة باضطراد يزيد مع تقدم عمر جانبي الأطلسي. ولعل من أبرز سمات تأثر القوة الصاعدة بما يجري في أصلها الأوروبي هو التوجه أكثر فأكثر نحو اليمين. ذلك قبل عدة عقود عندما كانت الساحة السياسية في الديموقراطيات الغربية بها يسار ويمين سياسي. لكن منذ نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، ومع توجه التيارين الرئيسيين في السياسة نحو "الوسط" أصبح من الصعب التمييز سياسيا بين التيارين.

ذلك التماهي الوسطي دفع نحو صعود تيارات أكثر تشددا على طرفي التيارين أخذت تتطور مكتسبة زخما من أجيال جديدة ناقمة أصلا على السياسة التقليدية ومستفيدة من أدوات تعبئة جديدة مثل الإنترنت ومواقع التواصل. تلك التيارات التي بدأت "طرفية" استعادت جذورا ثقافية أوروبية تتسم بالأصولية التي تقترب من العنصرية وأصبحت "متطرفة".

رغم أن كل ذلك بدأ في أوروبا قبل أقل قليلا من نصف قرن، إلا أن التعبير عنه في أميركا منذ مطلع هذا القرن كان أكثر وضوحا. وذلك لاختلاف طبيعة المجتمع الأميركي عن المجتمعات الأوروبية التي انبثق عنها قبل نحو أربعة قرون. وهكذا لم يكن ظهور دونالد ترامب ممثلا عن نحو نصف الجماهير الأميركية مستغربا تماما بما جاء معه من شعارات توصف بالشعبوية لكنها أقرب للتعبير عن تطور اليمين الأصولي المتشدد.

صحيح أن بداية صعود اليمين وتطرفه في أوروبا تزامنت مع صعود ما سمي "الصحوة الإسلامية" في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا (أي الأطراف على اعتبار أوروبا هي المركز)، إلا أن ذلك التحول الأوروبي لم يكن تماما نتيجة الأصولية المتشددة خارجها فحسب. بل كان تطورا داخليا برز أكثر بعد نهاية الحرب الباردة.

مع ذلك، لا يمكن استبعاد أن التشدد والتطرف اليميني الأوروبي/الغربي تأثر أيضا بالأصولية الدينية في الشرق خاصة في منطقتنا. وكان العامل المحفز الأهم في ذلك هو زيادة موجات الهجرة واللجوء من المنطقة إلى الغرب وأوروبا تحديدا منذ نهاية القرن الماضي. ولأن تلك الهجرة واللجوء كانت نتيجة حروب الغرب في منطقتنا، من الصومال إلى أفغانستان، فقد أذكى ذلك أيضا شرارة التشدد اليميني وكره المهاجرين في أوروبا وأميركا.

لا يمكن أيضا إغفال تأثير جماعات العنف في المنطقة، خاصة في شمال أفريقيا، على زيادة حدة رد الفعل من أوروبا ذات اليمين. وكما تعلمنا في المدرسة عن المغناطيسية فإن الأطراف المختلفة تتجاذب والأطراف المتشابهة تتنافر. وزادت حدة التنافر بين اليمين الشرقي ذي الصبغة الدينية واليمين الأوروبي لنصل إلى ما نحن عليه الآن.

وهكذا يمكن إلى حد ما وضع الحوادث المتكررة التي تتضمن عامل كره المهاجرين من ناحية وعنف المهاجرين خاصة من الأصوليين ضد البلاد التي هاجروا إليها في هذا السياق. ومن المنطقي أن يدفع ذلك كثيرا من الأوروبيين والأميركيين نحو اليمين. وأصبح هؤلاء رديفا لجماعات متطرفة كانت هامشية من قبل وأصبحت الآن ضمن المسرح السياسي الأساسي.

وهكذا فاز زعيم حزب الحرية صاحب التوجهات العنصرية في هولندا، وقبله صعد اليمين المتشدد في دول أوروبية أخرى محققا تقدما واضحا في الانتخابات العامة والمحلية من إيطاليا وألمانيا إلى فرنسا وبريطانيا. ولا يقتصر الأمر على ما تسمى أوروبا الغربية، بل سبقه أيضا صعود اليمين المتشدد في دول أوروبا الوسطى والشرقية مثل بولندا وغيرها. وإن كانت الأخيرة شهدت تحولا يعد في قدر منه رد فعل على فترة خضوعها لليسار السياسي ما قبل انهيار المعسكر السوفييتي.

ثم جاءت الحرب الأخيرة في غزة لتضيف مزيدا من الوقود لمحرك تلك التيارات اليمينية المتطرفة وتدفع كثيرين في الغرب نحو الأحزاب الجديدة التي كانت هامشية قبل عقدين تقريبا. لذا لن يكون مفاجئا أن تفوز جان ماري لوبن وحزبها بنسبة أكبر في الانتخابات الفرنسية القادمة أو أن يفوز حزب الاصلاح (وهو حزب يميني متطرف أسسه نايجل فاراج) بنسبة أكبر في الانتخابات البريطانية العام القادم. بل وربما يتوج ذلك كله بفوز ترامب مجددا في الولايات المتحدة نهاية العام القادم. وربما ذلك ما دفع مجلة رصينة مثل الإيكونيميست لنشر تحليل في عددها الأخير عنونته بأن دونالد ترامب قد يكون أخطر شيء في عام 2024.

بدأ التكتل اليميني المتشدد من بؤر صغيرة في أوروبا القرن الماضي لتصبح الآن كتلا سياسية رسمية داخل "المؤسسة". يقابلها في أميركا صراع بين "مؤسسة" أصبحت "عجوزة" كما وصف رمسفيلد اوروبا قبل عقدين وتيار جارف مناهض للمؤسسة. والأرجح أن التيار الأخير مستمر في الصعود والمؤسسة التقليدية آخذة في التراجع.