والحال إنّ التّـضادّ هذا بينهما ليس ممّا يتولّـد من معنى كـلٍّ منهما على وجه الضّرورة، ولا هو تعبير عمّـا بينهما من بـوْنٍ موضوعيّ بمقدار ما يُحيل إلى موقفٍ انشقاقيّ - أو شِقـاقيّ - بعينِـه؛ يتّخذه هذا أو ذاك ممّن يتمسّكون بمَـفهوم معيّن للعلاقة بين الهويّـة والانفتاح مبْنَـاه (= أي المفهوم) على المفاصَلة والتّباعـد بين الحدّيْـن. وليس المفهوم هذا وحده يترجم طبيعة الصّلة بين الحدّين كما سنرى.

من الواضح أنّنا نعني بجدليّة الهُويّـة والانفتاح في القيم وجْهاً من وجوه صلة الذّات، الأنا، بالعالم المحيط هـو الذي تُفـصِح عنه العلاقة المتشابكة - باستمـرار- بين المحليِّ والكونيّ. والمشكلة ظلّت، دائماً، في أنّ هذا الزّوج نُظِـر إليه بوصفه يتألّـف من نقيضين أو، على الأقـلّ، من حدّيْـن يَخْلوان من أيّ وجْـهٍ من وجوه الاتّصال والتّـفاعل ويُـعبِّـران عن عالَميْن يكادان أن يكونا متقابليْن ومنفصلين. وعندي أنّ هذا الضّرب من النّظر إلى الظّاهرتين (الهويّـة/الانفتاح والمحليّ/الكونـيّ) واحدٌ من أَضْرُبٍ عـدّة وليس الوحيد الذي يمكن حسبانُـه مطابِـقاً، وأنّ ضروباً أخرى من النّظر إليها قد تكون أَظْهَـرَ على الضّرب الأوّل (وهي، عندنا، ظاهرةٌ عليه ظُهورَ البيان والتّجلية)، بل هي تفتح أفـقاً آخَـر للنّظر إلى ظواهـرَ اجتماعيّة مثل هذه ليست بسيطة بحيث تَـقْبل التّعريفَ الابتداهـيَّ لها.

يمكننا، ابتداءً، تعريف الهُـويّـة (= وبالتّالي المحليِّ في القيم) بأنّها سلسلة السّمات الثّقافيّـة- الأنثروپـولوجيّـة التي تَـطْبَـع مجتمعاً أو جماعةً اجتماعيّـةً- ثـقافـيّة، والتي تنحدر من أزمنـةٍ ثـقافـيّة سابقة، فتكـوِّن ما يشبه جملةً من المواريث الدّاخلة في تشكيل كيان الشّخصيّة الجماعيّة. إنّ مبدأ وصفها بالمحليّة هو في أنّ تكوينها حصل في نطاق التّاريخ الثّـقافيّ والاجتماعيّ الخاصّ أو المحليّ أو - قُـلْ للـدّقّـة - الذي نُظِـر إلى محليّـته بوصفها مجرَّدةً من المُضافات وخصوصيَّـةً بإطلاق. أمّا الانفتاح فيُـعَرَّف بما هـو خروجٌ من شرانق الهُـويّة ومبارَحـةٌ لحدود الكونيِّ، من أجل انتهالِ قيـمٍ ثقافيّة واجتماعيّةٍ جديدة من منظومات خارجيّة لشعوبٍ وأمـمٍ وثقافاتٍ ومجتمعات أخرى، أي تقع في نطاق الكـونيّ.

لعلّ مكْـمَن الانزلاق في تلك النّظرة الأحاديّـةِ البُـعدِ للعلاقة بين الهويّـةِ والانفتاح، المحلـيِّ والكـونيِّ في موطِنيْن منها: في مفهوم صاحبها (= النّـظرة) لكـلٍّ من حـدّيْ العلاقة، وفي طبيعة المسافة الوسيطة بين ذينك الحدّيْـن. ولا يمكن تجاوُز مثل هذا المنزلق إلاّ بالوقـوف عليه، أي ببيانه وتحليله، ثمّ نقـده:

حين يشار إلى الهويّـة بحسبانها «الطّبائع» «الثّابتة» الموروثة من ماضٍ ما يزال ممتدّ المفعول، وإلى المحليِّ بحسبانه محصَّلة التّاريخ الخاصّ الموروث، ثـمّ إلى الانفتاح وإلى الكونيِّ بوصفهما تجاوزاً للذّاتيّة ونطاقها المحليّ المغلق، تكون عناصر ذلك الانزلاق في النّظر إلى هذه الحدود قد اجتمعت واكـتملت. ولأنّ مبْناها على تعريفاتٍ مُبَـسَّطة وتبسيطيّة - إذن غير تركيـبيّة - لتلك المفاهيم، لا يمكن للتّـفكير في الصّلة بينها أن يُفضيَ إلى مقاربة جدليّة لها على نحو ما ينبغي أن تكون عليه المقاربة، بل لن يعدوَ أن يكون تفكيراً أحاديّـاً تبسيطيّـاً.

ليستِ الهُـويّةُ محصّلةَ ما هو موروث فقط، بل ما هو موروث وما هو وافـد جرى توطينه فتحوّل مع الزّمن إلى جزءٍ أصيل؛ وليس المحليُّ ما تكوَّن في سياقٍ خاصٍّ مستقلّ، بل ما كان لخارجـهِ أثـرٌ فيه: ظاهرٌ أو مُضْمَر. بهذا المعنى فإنّ كثيراً ممّا يُدْرِجُه البعض في خانـة الهويّات والمحليّات هـو، على الحقيقة، منتوجٌ اجتماعيّ وثـقافيّ مركّـب من موادّ تنتمي إلى مصادر متعدّدة ومختلفة: داخليّة وخارجيّة، موروثة ووافدة، دينيّة ولا دينيّة، عُـرفيّة وقانونيّة...إلخ، لكنّ صيرورتَه مألوفاً داخل المجتمعات وبين النّاس، بعد أجيالٍ من تداوُله، صَيَّـرَهُ محليّـاً في الذّهنيّة الجماعيّة من غير أن يكون كذلك في التّـكوين والمسار.

وليس الانفتاحُ مغادرةً للذّات ومَحْـواً لها واتّباعاً للآخَـر؛ ولا الكونيُّ إنهاءً للمحليِّ وتَخـطّيّـاً له، بل الانفتاح يمرّ عبر حوار الذّات آخَـرَها والامتياحِ منه وإمدادِه في الوقت عينِه؛ والكونيٌّ خلاصـةٌ تركيبيّـةٌ للمحليّات وانتخابٌ لأكثـرِ المشتَـرَك بينها من القيم. إنَّ الفارق هائل بين الانفتاح والتّسـوُّل الثّقافيّ والقيميّ، وبين الكونيِّ وهيمنةِ قيمٍ ثقافيّـة بعينها (هي الثّقافة الغربيّة عند المدافعين عن مفهومٍ دارجٍ للكونـيّة!).

وبالجملة، ما من مجتمعٍ لا يتمسّك بمنظومة قِـيَمه حتّى وإنْ هو وَلَـجَ إلى الكونيّـة من أوسع أبوابها، لأنّ هويّـته - ببساطة - تتّسع لكثيرٍ ممّا هو جديدٌ فيها ووافدٌ، أي ممّا ينتمي إلى الكونيِّ وممّا تَكـوَّن في امتداد الانفتاح على الكونيّ. ليس، إذن، من تناقُـضٍ بين الهويّـة والكونيّـة في القيم إلاّ في وعييْن قُصْووِيَّـيْن: في وعـيٍ ارتكاسيٍّ منغلق يتصوَّر الهويّـةَ طبيعةً ثابتةً لا تتبدّل والانفتاح باباً إلى انحلالها؛ وفي وعيٍ يرى إلى الكونيّـة بوصفها مَحْواً للهويّـات؛ وكِـلاَهما يقود إلى الشّـقاق.