يقوم الموقف التاريخي العربي من القضية الفلسطينية على الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، وعلى المبادرة العربية للسلام المعتمدة في القمة العربية في بيروت عام 2002.
القاعدة الأولى تقول إن للشعب الفلسطيني قيادة يعترف بها العالم أجمع وعلى أساسها تمّ إبرام اتفاق أوسلو عام 1993. والقاعدة الثانية تقول إن العرب كما جلّ دول العالم مع حلّ الدولتين لإنهاء الصراع.
بالمقابل، يقوم موقف إيران، ووفق ما رشح مجدداً من مواقف بشأن البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية الأخيرة على قواعد أخرى. فعلى الرغم من حضور الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي القمّة في الرياض في 11 نوفمبر الجاري، إلا أن مصادر طهران (خصوصا المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني) عادت بعد ذلك وأعلنت عن تحفّظيْن. الأول يتعلق بحصرية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية للشعب الفلسطيني، ذلك أنها تعتبر أن فصائل أخرى غير منضوية تحت سقف المنظمة لها صفة تمثيلية لفلسطين والفلسطينيين. الثاني يتعلق بمسألة المطالبة بحلّ الدولتين لما يعني ذلك من اعتراف بإسرائيل وهو أمر ما زالت الجمهورية الإسلامية رافضة له.
وتُعد مسألة التمثيل الفلسطيني كما مسألة المبادرة العربية وحلّ الدولتين من الأدبيات السياسية داخل منظمة التعاون الإسلامي، بما يجعل من التحفّظ الإيراني خارج الإجماع المعتمد عربيا وإسلاميا. والأمر يعني أن لإيران قراءة مختلفة لقضية فلسطين ومقاربة أخرى لحلّ المسألة الفلسطينية. وهو سلوك منعزل عن المشهد الدولي (الذي يعترف بتمثيلية المنظمة ويدافع عن حلّ الدولتين) والمشهد الإقليمي بشقّيه العربي والإسلامي.
وفيما انتهجت طهران خلال المرحلة الأخيرة مقاربات انفتاح ووصل مع المنطقة العربية عامة ودول الخليج خاصة، وراحت إلى إبرام اتفاق في 10 مارس الماضي في بكين لفتح صفحة من التعاون والوئام مع السعودية، فإن تحفّظها على حلّ الدولتين يأتي على نقيض الرؤى العربية وعلى نقيض المبادرة العربية المستوحاة أساسا من مبادرة سعودية أطلقها العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز عام 2002.
والواقع أن التحفّظات التي تسرّبت من طهران قد لا تنفي التطوّر الذي أبداه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في تمرير مسألة التمثيل وحلّ الدولتين في البيان الختامي لقمّة الرياض كواجهة من واجهات البراغماتية التي تودّ إيران أن تكون سمّة سياساتها الخارجية الجديدة. وإذا ما سُجل تحفّظ للعراق وتونس بنفس الاتجاه، فإن ذلك أنقذ الموقف الإيراني من عزلة لا تجاري جهودها لإصلاح ذات البين داخل البيتين، العربي والإسلامي.
والأرجح أن مواقف إيران من مسائل كثيرة في العالم وخصوصا تلك في الشرق الأوسط تتأرجح ما بين النصوص العقائدية والسياسات والتكتيكات البراغماتية. فالنصوص تأخذ جيدا بالاعتبار ما هو ثابت في عقائد التيار المحافظ الحاكم وتمدداته داخل المؤسسات الإيرانية وتوابعها الفصائلية في العالم، فيما رشاقتها السياسية تأخذ بالاعتبار الواقع والوقائع وما هو متحوّل في العالم يتطلب تحوّلا في مواقف قمّة الدولة في إيران.
وسيجدّ المراقب ذلك القفز بين الأيديولوجي والبراغماتي في مواقف مرشد الجمهورية السيّد علي خامنئي المتمسّك نسبيا بمتون النصّ منذ قيام الجمهورية الإسلامية، والبراغماتي المتلوّن في مواقف حكومة رئيسي التي تعبّر عنها في مسألة مقاربة الحرب في غزة تصريحات ومواقف وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان.
وتظهر خفّة الانتقال من النظري إلى الواقعي في الديباجات المستخدمة لتبرير عدم انخراط إيران وفصائلها الولائية التابعة في عدد من دول المنطقة بالحرب دعماً لحركتيّ حماس والجهاد وغيرها في قطاع غزة. وإذا ما نشرت رويترز ما زعمت أنه تأنيب وجهه خامنئي إلى زائره رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية لأن الحركة لم تبلغ طهران بخططها بشأن عملية "طوفان الأقصى" في 7 اكتوبر، فإن الأمر، وعلى الرغم من نفيّ حماس للواقعة، يعود بالأرجح إلى تسريب مصدره إيران لوكالة الأنباء الدولية بغية الدفع بأعذار وحجج جديدة لتبرير ما عدّه عدد من قادة حماس (خالد مشعل، موسى أبو مرزوق، غازي حمد على سبيل المثال) رداً غير كاف من قبل إيران وحزب الله وبقية فصائل "محور المقاومة".
وعلى الرغم من تحفّظات إيران بشان فلسطين وتمثيلها ومستقبل حلّ قضيتها، فإن لا أحد من داخل المشهد العربي والإسلامي يأخذ الأمر على محمل الجدّ طالما أنه غير مسنود بخيار إيراني عملي بديل، وطالما أن طهران في حالة تفاوض لم تتوقف مع الولايات المتحدة، وطالما أن إيران نأت بنفسها منذ الساعات الأولى لبدء الحرب عن أي تورط في عملية "طوفان الأقصى". وقد بدا في هذا الإطار حرص إيران على تكرار وتأكيد أن هجمات "القسام" كما ردّ حزب الله وفصائل العراق وجماعة الحوثي اليمنية لاحقا هو قرار محليّ ذاتي لا شأن لإيران به وليس تنفيذاً لأوامر أو إيحاءات صادرة عن طهران.
تبدو إيران في تحفّظها المهرَّب على بيان القمّة العربية الإسلامية كما في تبرؤها من أي ضلوع بعملية "حماس" في غلاف غزة، وكأنها تمارس تمارين تدريجية للاستقالة من الشأن الفلسطيني، أولا لعجز عن تقديم رواية ذات صدقية لمشروعها في هذا الصدد، وثانيا لضعف أدواتها الذاتية والتابعة في هذا الصدد، وثالثا، وهذا الأهم، أن إيران تبرع في التحرّك على هامش القضايا وليس داخل متنها، خصوصا وفي هذه الحالة بالذات وقد عادت فلسطين لتكون قضية العرب الأولى والهاجس الأبرز في المحافل الدولية هذه الأيام. وهو ما يفسّر تعرّض القمّة لانتقادات من قبل حزب الله في لبنان وإعلام الحرس الثوري في إيران.
وسط هذه الحقيقة لن تستطيع طهران إلا الاندماج في المفهوم الدولي العربي الإسلامي والاستسلام للمعلن والمعترف به والمكتسب خلال العقود الأخيرة بشأن فلسطين وقضيتها. فإذا ما اختارت عدم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا للفلسطينيين ورفضت طموح الفلسطينيين لإقامة دولة على حدود 4 يونيو 1967، فإن ذلك يعني أن طهران تختار هامش العالم فيما هي تجهد بدأب لتكون بارزة في متنه وقطبا من أقطابه.