يلقّننا عرّاب العقل البشري "إيمانويل كانط" درساً في أبجديّة معنى وجودنا، في وصيّته القائلة: "نحن لا نُقبل على هذه الدنيا، لكي ننال السعادة، ولكننا نُقبل لكي نؤدّي الواجب"، لأن في أداء الواجب تلبية لنداء الضمير، وفي إرضاء هذا الحَكَم الغيبيّ يكمن ذلك الإحساس بالخلاص، الذي اعتدنا أن نسمّيه سعادة، فنحن نهفو، عادةً، لإرضاء الغرور، بدل إرضاء الضمير، لأن ما يُرضي الضمير هو: التضحية بالسعادة، في سبيل أداء الواجب؛ هذا في حين يأبى الغرور إلّا أن يضحي بالواجب، في سبيل نيل السعادة، وسواء اصطفتنا الأقدار لماهيّة هذا الواجب، أم نحن مَن يختار قدرنا، باعتناق الروح الرساليّة في هذا الواجب، فإن سعادتنا، كما برهنت التجربة، تبقى رهينة مدى استعدادنا لأنْ نحسن القيام بهذا الواجب، الذي كثيراً ما يهرع لنجدتنا، في جنس عملٍ مّا يختارنا هو، ولسنا نحن صحبان فضلٍ في اختياره؛ لأن الرهان ليس على جنس العمل، ولكن في مدى القدرة على إتقاننا للعمل، بحيث يستعير هذا العمل مؤهّلاً رساليّاً، يجعله جديراً بلقب ما نسمّيه: الواجب، لتهبه هذه اللمسة السحريّة، منزلةً هي رأسمالٍ في سيرة كل سليل، يختزل في نشاطه الوجوديّ، الحقيقة، التي لا تعترض رحلتنا بالمجّان، ولكن بنزيفٍ روحيٍّ، هو: الهجرة!

فأيُّ مريد حقيقةٍ لم يعتنق الهجرة ديناً؟ أو في صيغة أخرى: أيُّ نبيٍّ لم يهاجر؟ هل هو نوح؟ أم إبراهيم؟ أم يونس؟ أم يوسف، أم موسى، أم عيسى، أم خاتم النبيين والمرسلين محمد ابن عبد الله، صلوات الله عليه، الذي أبَى إلّا أن يعتمد الهجرة دليلاً، يسري في شرايين الزمن، عندما نصّبها معنىً في التاريخ، ليُحاجج بحجّتها الأمم، ليستعير الوقت نزعةً هجرية، لا ميلادية كما في المسيحية، أو نزعةً دنيوية كما في الأمازيغية، مبرهناً بذلك على وجوب الاحتفاء بالهجرة بوصفها الترجمان في معراج خلاصٍ هو: الحريّة؟

كيف لا يكون وجودنا نفسه صنيعاً ملفّقاً من طينة هجرة، إذا كان السلف آدم نفسه صنيع هجرة؟ وكيف لا تكون الصحراء دار عبادةٍ، إذا كانت هي صاحبة الفضل في حبك نسيج الهجرة، لتغدو هذه الهجرة حجر الحكمة، الذي أبدع النبوّة: النبوّة التي كانت وحدها في واقع دنيانا حجّة حقيقة؟

فإذا كانت كتب الـ"أوبانيشاد" السنسكريتية تتغنّى بمعجزة الهجرة، فتقول: "بالهجرة صارت الربوبية ربوبيّةً)، فكيف لا يجوز لنا أن نحاجج بالهجرة فنقول: أن النبوّة بالهجرة صارت نبوّةً؟ وكيف لا نترنّم بمديح الأمّ، التي أنجبت الهجرة جنيناً من بطنها، وهي الصحراء، بأحجيةٍ هي الصمت، كشَرَكٍ لاقتناص الوحي، فيستجير بتلابيبها الأنبياء كملاذ؟

فالهجرة لم تكن يوماً حكراً على الأنبياء، ولكن الهجرة كانت، وستبقى، قدر كل إنسانٍ في ملهاتنا الدنيوية. فمن منّا ليس مهاجراً؟ مَن منّا لم يولد من سلالة أبٍ مهاجر، أو جدّ، أو سلفٍ، مهاجر، حتّى إذا تأمّل تجربته، لم يعدم أن يكتشف أنه، إن لم يكن مهاجراً بالحرف، فهو مهاجرٌ بالروح، وإن لم يكن مهاجراً بالروح، فهو مهاجرٌ بالحلم، أي بالطينةِ، وهو أضعف الإيمان؟

ولكن لماذا تستهوينا الهجرة، إلى الحدّ الذي صارت فيه موضوع كل نشاط روحيّ في تجربتنا، كما تهدي لنا أسئلة الإنسان الكبرى، المبثوثة في متون ملاحم الإنسانية الكبرى؟

فالكل مهاجر: "جلجامش"، أوليس في "الإلياذة، والأوديسة"، وأناي في "الإنياذة"، و نموذج العالم السفلي في متون الأهرام، وآدم في فردوس مِلتون المفقود، ودون كيخوت، والبطل في الكوميديا الإلهية، والنموذج في الحرب والسلم، وإسماعيل في الموبي ديك، والعجوز سانتياغو في "الشيخ والبحر"، وأبطال "ذهب مع الريح"، ومارسيل في البحث عن الزمن الضائع، وأبطال "الدون الهادي"، والزنجي المنذور للقتل في أوراق فوكنر الحمراء، والزعيم "آدّه" في المجوس، بل كل عملٍ أدبي ذي شأنٍ في إرث الحاضر، كما في تراث الماضي، لا يملك إلّا أن يعالج الهجرة، لأنها اختزالٌ مجازيّ حكيم، لأيّة تجربة حرفيّة، ممّا سيعني أننا ورثنا جرثوم الإثم في لعنة المنفى الأوّلي، وكل ما نفعله في واقع حضيضنا الدنيوي هو الهجرة، هو السعي في أرض اليابسة، لكي نكفّر، في بحثنا المحموم، عن خطيئتنا، علّنا نستعيد نفحةً من فردوسنا الضائع. وعلّ ما نسمّيه أداء الواجب، ما هو إلّا رحلة، الإمام فيها الحرية، والقربان هو الشفيع في نيل الغفران، والشقي هابيل أول حرفٍ في أبجديّتها، وإلّا لما فضّل الله قربانه على قربان شقيقه قابيل، ليلقى مصرعه بسبب هذا الوسام، لأن قربانه كان موسّماً بروح الحرية، روح الراعي، في مقابل قربان قابيل المبصوم بجرثومة الفلّاح، الذي يغتصب أرضاً هي له أمّ، ليأخذ منها غصباً، ما لم تهبه له طوعاً، ليضع هذا الراعي، بنزيف دمه، حجر الأساس الذي قصم ظهر القبيلة البشرية إلى قطبين: قطبٌ مهاجر، وآخر مستقرّ، لينال الفريق المهاجر لقب "القبيلة الإلهية"، من عرّاب الديانة المسيحية، القدّيس أوغسطين، مقابل لقب "القبيلة الدنيوية" في حقّ القبيلة الحضرية، تيمّناً بوصايا سلفه القديس بولس، الذي سبقه فتغنّى بحقيقة المهاجر، قائلاً: "استضيفوا المهاجر، لأن أناساً كثيرين استضافوا في المهاجر ملاكاً وهم لا يعلمون"، فإنسان الاستقرار منذورٌ بالسليقة لأن يدفع المكوس، تكفيراً عن خطيئة الفلّاح قابيل، في حقّ الشقيق الراعي هابيل، خطيئة النموذج الحضري في حق النموذج البرّي، خطيئة النموذج الحرفي في حقّ النموذج الروحي، خطيئة النموذج النفعي في حقّ النموذج الزهدي، خطيئة النموذج المدنّس في حقّ النموذج المقدّس، وهي النزعة التي تباهى بها قدماء العرب وآمنوا بها منذ القدم، في تقليدٍ مجيدٍ هو: "القِرَى"، فلعبت فيه دور البطولة نماذج، استعارت في التاريخ أبعاداً أسطورية مترجمة في سير فرسانٍ أمثال: كعب بن أُمامة، وحاتم الطائي، وهرم بن سنان، وغيرهم، فحقّ لنا أن نتساءل: بأي حيلةٍ استطاعت الهجرة أن تحقق في وجودنا معجزة الخلاص؟

الواقع أن الهجرة لم تكن لتكون أصلاً لولا وجود وصيٍّ حميمٍ هو الصحراء، لسببٍ وجيه وهو أنها، وحدها، لا سواها، طريق. الصحراء كلّها طريق، ولمّا كانت بسليقتها طريقاً، فهي تستدرج، لا لتأوي، ولكن لتطرد. تستهوي لا لتهدهد، تستدعي لتروّض. تروّض على إدمان الطريق، فليس للمُريد أن يسكن إليها، ولكن على المريد أن يهجرها، لغاية تسليم زمام الأمر لجناب معلّمٍ حكيمٍ هو: الطريق. هذا الطريق الذي لا يسلكه إلّا صحبان الحدَس، الذين اعتادوا أن يروّضوا الرؤى الروحيّة، لتحويلها إلى حجر الحكمة، الذي يبدع من الطريق طريقةً؛ الطريقة المعتمدة، في مناهج كل الديانات الإستسرارية، كمفهومٍ يترجم مفردة جسيمة، اُنتُدبت خصّيصاً لتلعب دور السهل الممتنع في واقع الأجيال، وإلّا لما استجار بها حكيمٌ في مقام بيلاطوس، لتكون له سفيراً في سؤاله الخالد، الموجّه للمسيح وهو: "ما هي الحقيقة؟"، لتعتنقه الديانة الطاوية، إلى الحدّ الذي جعلها تنصّبه كلمة السرّ في أبجديةٍ تزاوج بين الوجود والعدم، عندما ترنّمت: "مَن عرف الحقيقة في الصباح، في المساء يستطيع أن يموت".

وسؤال الحقيقة هو نفسه سؤال "سيلين الاغريقي"، الموجّه للقنطروس الأسطوري: "لماذا يولد الانسان؟"، وهو في المفهوم نفسه سؤال الإسكندر المقدوني الموجّه لحكيم الهندوس: "متى على الإنسان أن يموت؟"، لنؤمن بأن البطولة ليست في أن ننفق وجودنا في البحث عن الأجوبة، ولكن في القبول بالمبدأ القائل بأن السؤال هو نحن، بدليل أن القيمة في الجواب، دوماً رهينة الحكمة في السؤال. الحكمة التي إذا تكررت، واستوت في منزلة "المندلة"، صارت الجواب، الذي يختزن ذخيرة كل الأجوبة، ليستعير، بهذه الموهبة، طينة الحقيقة، كأحجية نستطيع أن نستوعبها حدَساً، ولكن هيهات أن نفلح في التعبير عنها حرفاً؛ لأن اللغة منطقٌ في علم الوجود، أما الحقيقة، فاغترابٌ في البُعد المفقود.

فالصحراء علمٌ، ولكنه العلم الذي لم نعترف به، لأننا لم نفعل ما يكفي كي نكتشفه، لأن الصحراء كالجبل الجليدي العائم: عشره فقط يطفو على سطح اليابسة، أما التسعة أعشار الباقية فغنيمة الروح التي تحتجب عنّا بفضل بعبعٍ هو النسيان، فلم يولد بعد إمام الفتح الباسل، القادر على كشف ذخيرة هذا العرّاب الحكيم، المدعو صحراءً، المستوصى على سرّ التكوين، وإلّا لما جادت عليه الزرادشتيّة بالوسام القائل: "من يروّض الصحراء، إنّما يروّض الحقيقة"، فالصحراء التي لم تبخل على الجنس البشري، لا بالثروات الروحية، ولا بالثروات النفعية، هي اللقية الضائعة في حفريّات التكوين.

يقول كانط في نقد العقل العملي: "معجزتان في هذا الوجود، هما: النجوم في قلب السماء، والأخلاق في قلب الإنسان". فإذا ترجمناهما إلى لغة الأسافل لن نملك إلّا أن نتغنّى: "عندما نبيح لأنفسنا التجديف في حقّ الطبيعة، فلن نضمن ألّا نجني قيام قيامةٍ في درنة. وعندما نبيح لأنفسنا التجديف في حقّ ناموس القيم الأخلاقية، التي تضبط علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، فلن نضمن ألّا نجني قيام قيامةٍ في غزّة". وعندما يستصرخ نيتشه الأجيال في نداء: "لا شيء حقيقي، كل شيء مباح"، فإنما يتبنّى وصيّة ديستويفسكي: "عندما يغترب الله في واقعنا، فإن كل شيء يغدو مباحاً، حتى اقتراف الجريمة".