ولأن الصراع في منطقتنا شابه الكثير من التشوهات، خاصة في السنوات الأخيرة مع بروز جماعات تتسربل بالدين في ممارستها للعنف ضد المدنيين وتعزز ذلك بإقرار إسرائيل عام 2018 قانون "يهودية الدولة" فإن التفكير المنطقي يتوارى لصالح الدوغمائية والشعارات الشعبوية.

في حديث قبل أيام مع صديق أكاديمي على علاقة وثيقة بالإعلام أثير موضوع ما يصل إلى حد العنصرية في تغطية الإعلام الغربي للحرب في منطقتنا، ويزيد عما بدا واضحا في بداية حرب أوكرانيا العام الماضي. ولأنه يحاضر في التاريخ في أعرق جامعة في بريطانيا، سحب الأمر إلى جذر في غاية الأهمية.

فبرأيه أن الشواهد التاريخية والأدلة المعاصرة حتى يومنا هذا تفيد ببساطة أن الولايات المتحدة ودول أوروبا مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا لا تعتمد في سياستها مبدأ "التعاطف الإنساني" أو حتى الحرية والديموقراطية كما يشيع في الخطاب السياسي العام. وأن الأمر ببساطة هو رد فعل من تلك الدول على "الضعف وإدراك تراجع دورها" عالميا. ولأن منطقتنا للأسف "مساحة مناسبة" لمن يريد أن يفرض نفسه، فذلك الدعم المبالغ فيه لإسرائيل ليس حرصا عليها ولا "حرصا على اليهود أو غيرهم" بقدر ما هو محاولة لإثبات القوة والنفوذ.

ذكرني كلامه بالمقولة المهمة للمفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري الذي لم يدرس أحد اليهودية والصهيونية مثله والتي وصف فيها إسرائيل بأنها "دولة وظيفية"، أي أنشئت لتؤدي وظيفة معينة في سياق أوسع كثيرا من التعبيرات المسطحة عن دولة لليهود أو تكفير عن ذنب أوروبي على ما ارتكبته انظمتها بحق اليهود الأوروبيين.

بدا لي كلام الأكاديمي البريطاني منطقيا جدا، خاصة وأن الولايات المتحدة بقيادة الرئيس الديموقراطي جو بايدن لم تتمكن حتى الآن من تحقيق طموحها الاستراتيجي بتأكيد ريادتها العالمية المتفردة عبر "تحالف غربي واسع" تقوده. ولم تكن حرب أوكرانيا إلا وسيلة لأميركا وحلفائها الأهم في أوروبا لوقف مسار ما تسعى قوى صاعدة لتأكيده من خلال "عالم متعدد الأقطاب" وليس أحادي القطب تقوده أميركا وحولها دائرة ضيقة من حلفائها. صحيح أن ذلك النهج يعود إلى ما قبل تولي إدارة بايدن، لكن تلك الإدارة جعلته مهمتها الاستراتيجية الأولى في محالة لمواصلة تشكيل "نظام عالمي جديد" تتعثر منذ نهاية الحرب الباردة وتجاوز العالم ثنائي القطبية.

توسع إسرائيل في الحرب، والتي ربما تصل إلى لبنان أيضا بغض النظر عن محاولات احتوائها، هو تعزيز للدور "الوظيفي" هذا وأيضا تعبير عن جهود الغرب لتعويض أي فشل له في حرب أوكرانيا. والأمر في منطقتنا أسهل كثيرا، إذ إن أحدا لا يستطيع أن يجادل في "مكافحة الإرهاب". لذا التركيز على حركة فلسطينية مرتبطة بتنظيم الإخوان وعلى تنظيم لبناني مرتبط بإيران.

إنما التفكير بعيدا عن سخونة الأحداث يرجعنا ببساطة إلى أنه حتى مشكلة "الإرهاب" تلك هي تصدير غربي، وتحديدا أميركي/بريطاني. صحيح أن جماعة الإخوان اعتمدت العنف والإرهاب منذ تأسيسها مطلع القرن الماضي (بدعم من الاستعمار البريطاني في منطقتنا وقتها)، لكن ذلك بقي محدودا ومحليا. أما تحول الإرهاب إلى خطر عالمي فكان انطلاقا من باكستان وأفغانستان بداية الربع الأخير من القون الماضي مع تنظيم القاعدة الذي دعمه الغرب في مواجهة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان وقتها.

وتوسعت المهمة "الوظيفية" للإرهاب لتبرز "داعش" في العراق وسوريا وشمال أفريقيا. ولعلنا ما زلنا نذكر الدور الأميركي والغربي عموما في الإبقاء على تللك التنظيمات (ولو بصورة مضعفة كفيروسات اللقاح) وإعادة تصديرها لأماكن أخرى في أفريقيا وآسيا.

من نافلة القول العودة لمقولات سابقة لكثيرين في منطقتنا، استكانوا إليها، باعتبار أن الصراع العربي الاسرائيلي بدأه المستعمر بتصدير "المشكلة اليهودية" إلى فلسطين. ذلك لأنه يبدو كما يرى الأكاديمي البريطاني أن الأمر أبعد من ذلك بكثير، فهو تصدير لكل ما يمكن أن يصيب الغرب بالضعف إلى أماكن أخرى في العالم المحيط وبما يسمح له بممارسة دور ربما يفوق مكانته الحقيقية في الواقع.

صحيح أن السياسة تتعامل مع الواقع دون افتراضات إذا كان لها أن تحقق نتائج عملية، لكن فهم الخلفيات في غاية الأهمية أيضا. إذ إن بناء السياسات على أساس ردود الفعل على أحداث جارية دون إدراك جذورها غالبا ما يؤدي إلى حلول مؤقتة لا تصمد، بل وربما عاد بالضرر على من يتصرف هكذا.

وفي النهاية من المهم القول إن الغرب، أو غيره، لا يصدر مشاكله لمن لا يستوردها. صحيح أنه يلجأ للقوة والضغط أحيانا ليحقق ذلك التصدير لكن في النهاية ما لم "يستهلك" من تلقى عليه تلك المشاكل صادرات الغرب فلن تفيد. بالطبع الحل الأفضل هو "مشاكلهم ردت إليهم"، لكن في ظل الأوضاع الحالية يبدو ذلك ضربا من المستحيل. فليس على الأقل من التعامل مع أزماتنا ونحن ندرك أن أحدا لا يريد سوى مصلحته، فقدم مصلحتك أنت أيضا أولا.