الغضب: بسبب القصف الإسرائيلي المستمر والمكثف في القطاع، الصغير الحجم جغرافياً، والمكتظ سكانياً، والخيبة: بسبب العجز الرسمي العربي التقليدي عن مساعدة الفلسطينيين والاكتفاء بتصريحات الاستنكار المعتادة، وغير المؤثرة.

وبقية القصة معروفة: يلجأ المجتمع، كشخصيات عامة ومؤثرين ومؤسسات غير حكومية، إلى تنظيم احتجاجات وكتابة بيانات واستنفار حكومات عاجزة وشتمها، ولعن الغرب ايضاً "المؤيد" لإسرائيل و"المتواطئ" معها الخ.

في ظل هذا التكرار في المشاهد والمشاعر، وحتى اللغة واستخداماتها التعبوية والغاضبة، وهو التكرار الناتج، في معظمه، من مران شعبي وإعلامي ونفسي متواصل على مدى عقود طويلة، تختفي الكثير من الحقائق وتهيمن العواطف على حساب تراجع الفهم وفقر المعرفة. يساعد هذا التكرار ويغذيه، إعلامٌ عربي اختار معظمه، تقليدياً ايضاً، أن يصبح "جزءاً من المعركة،" بدلاً من أن يغطي "المعركة،" لمساعدة الجمهور على تكوين فهم دقيق وموضوعي لقضية شائكة ومعقدة يكثر فيها اللاعبون والمؤثرون وتتشابك فيها افعالهم ورغباتهم.

كما في الأزمات السابقة الشبيهة المتعلقة بفلسطين، انتهى معظم هذا الإعلام إلى الاندراج السهل في الترويج والتحشيد وشحذ المشاعر، وتخلى، بسهولة مقلقة، عن مهمة الإعلام المهني في تغطية النزاع من زواياه المختلفة وترسيخ وعي حقيقي بشأنه.

بسبب هذا كله، توارت الكثير من الحقائق الجديدة التي نتجت عن عملية "حماس" الأخيرة والرد الإسرائيلي عليها، وما يعنيه الاثنان إقليمياً ودولياً.

ربما من بين أولى الحقائق المتوارية بهذا الصدد هو أن السابع من أكتوبر، عملية حماس العسكرية في غلاف غزة، هي نقطة تحول كبرى في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، قد تفوق في أهميتها التحول الكبير السابق، مسار مدريد الذي، بدءاً من أكتوبر 1991، دَشَّنَ إمكانيات جدية، عبر أوسلو الأولى والثانية، لحل الدولتين.

تكمن الأهمية القانونية والأخلاقية والسياسية لمسار مدريد في إنه مَثَّلَ كسراً حقيقياً وجدياً لثنائية العنف المتبادل تحت عنوان المقاومة-الاحتلال، تلك الثنائية، المُبجلة عربياً، التي ساهمت في تعميق الصراع وزيادة كلفته الانسانية والاخلاقية وتوسيع الفجوة بين الأطراف المختلفة من دون أمل بحسم ما.

فشل مسار مدريد في آخر المطاف، لأسباب متداخلة ومعقدة. بعضها يرتبط بارتياب وتعنت إسرائيليين، معبأين عموماً بأحاسيس عنصرية تدور حول مركزية الذات وثانوية الآخر، وبعضه الآخر بفشل السلطة الفلسطينية في بناء مؤسسات رصينة وانتشار الفساد فيها، فضلاً عن رفض حماس حل الدولتين وسعيها الحثيث لإفشاله عبر عمليات انتحارية وسيارات مفخخة قدُمت في إطار سردية المقاومة/الجهاد. تغذت هذه العوامل من بعضها الآخر، إلى أن مات هذا المسار سريرياً منذ نحو عقد ونصف. لم تبذل محاولات جدية لبث الحياة في هذا المسار فيما بدا استسلاماً، يقترب من القدرية، بحتمية الفشل.

على نحو لم تتوقعه حماس، وعلى الأكثر، لم تخطط له، قادت عمليتها المفاجئة والمُعدة جيداً في السابع من أكتوبر، بعنفها الواسع والصادم والمشهدية العالية التي رافقتها، إلى إعادة الاعتبار الجدي والُملح لفتح مسار السلام.

هذه ربما هي الحقيقة الثانية الناتجة عن عملية "غلاف غزة": انتباه غربي سريع للضرر الفادح الناتج من التقاعس السياسي الغربي الذي أخذ شكل القبول بـ"الوضع الراهن" كفترة انتقالية طويلة ومفتوحة، يدفع معظم ثمنها الفلسطينيون العاديون، إلى أن تتوفر "موضوعياً" شروط الذهاب إلى السلام عبر حل الدولتين.

بعد عملية "طوفان الأقصى" تماهى الغرب تماماً مع إسرائيل في الأيام الأولى، في إطار تعاطف استثنائي وسريع، ليس فقط بسبب سقوط العدد الكبير من المدنيين الذين بينهم مواطنون غربيون، وإنما ايضاً، والأهم، بسبب استنفار الحس بالتجربة الصعبة المشتركة التي مرت بها دول غربية بإزاء التنظيمات الجهادية الإسلاموية العنيفة كالقاعدة وداعش. في الفهم الغربي، السابع من أكتوبر هو النسخة الإسرائيلية للحادي عشر من سبتمبر الأميركية (تفجيرات نيويورك 2001) والحادي عشر من مارس الإسبانية (تفجيرات مدريد 2004)، والسابع من يوليو البريطانية (تفجيرات لندن 2005)، والثالث عشر من نوفمبر الفرنسية (تفجيرات 2015). في هذه مجتمعةً، قُتل آلاف المدنيين بسبب العنف المتعمد لتنظيمي القاعدة وداعش، لتحفر مشاهدُ العنف وعناء الضحايا من مواطني البلاد عميقاً في روح هذه المجتمعات وقرارات زعمائها بخصوص فهم الإرهاب وكيفية التعاطي معه.

تَتَرجم هذا الحسُ بالتجربة المشتركة ومخاطر الانتظار المفتوح لحل مؤجل وملتبس للعناء الفلسطيني الى إرادة غربية جديدة بضرورة تصفية "حماس" في إطار تصنيفها الغربي الجديد، على أثر عملية غلاف غزة، على أنها حركة جهادية متطرفة تستلهم وتنفذ العنف الارهابي الذي مَيَّزَ المنظمات الجهادية الأخرى، وليست حركة تحرير وطني، تستخدم أساليب إرهابية لتحقيق أهداف سياسية محلية الطابع. هذه هي الحقيقة الثالثة التي أنتجتها عملية غلاف غزة: تفكيك "حماس" كتنظيم مسلح على نحو شبيه بما حصل مع القاعدة وداعش.

تقود هذه الى الحقيقة الرابعة، ففي التصور الغربي رُبطت هذه التصفية ل"حماس" التي تغذت على العناء الفلسطيني واستثمرت فيه سياسياً وشعبياً وايديولوجياً، بإنهاء هذا العناء عبر استئناف حل الدولتين.  على الأغلب، فسح "طوفان الأقصى" السبيل لإزالة، او على الأقل تقويض، أهمَ عقبتين أمام حل الدولتين: منظمة "حماس" التي عارضته بشدة بالأفعال المسلحة وبالخطاب الشرس والتحريضي، واليمين الإسرائيلي المتطرف الذي خسر كثيراً بعد العملية الاخيرة بسبب فشل استراتيجيته بالردع الأمني التي قامت على التعامل مع الفلسطينيين في إطار اختزالهم بالاشتراطات الأمنية الإسرائيلية بدلاً من الحاجات الانسانية لهم كأفراد وكجماعة وطنية.

من المبكر التنبؤ بالمسار المستقبلي لهذا السيناريو، وإنْ كان سيتوفر له الالتزام الغربي اللازم وصولاً إلى تحقيقه. لكن مبكراً ايضاً واجه هذا السيناريو بعض العقبات: الرد الاسرائيلي المبالغ به بإزاء قطاع غزة، الذي وصل حد الثأرية من خلال إزالة التمييز بين المدنيين والمسلحين فيه، إذ فرضت إسرائيل حصاراً كاملاً على القطاع، قطعت من خلاله وصول الماء والغذاء والكهرباء والوقود للقطاع، ثم حملة قصف جوي كثيفة سقط فيها ضحايا مدنيون كثيرون. قادت هذه الشراسة الإسرائيلية إلى "فرملة" الاندفاع الغربي المتعاطف معها حد التماهي، فكان تصاعد الدعوات الغربية، أوروبياً وأميركياً، المغلفة باللغة الدبلوماسية، لكن الواضحة في مغزاها بخصوص ضرورة احترام قوانين الحرب وبذل اقصى الجهود لتجنيب المدنيين ويلاتها، فضلاً عن السعي الغربي الحثيث لإيصال مساعدات إنسانية للقطاع عبر الضغط على اسرائيل لجعل هذا الايصال مستمراً وأكثر حجماً.

لا تقوّض هذه المسافة القصيرة الفاصلة بين الغرب وإسرائيل صلابةَ الدعم الغربي لها في معركتها المقبلة ضد "حماس". لكن في حال فشل إسرائيل في ردع النزعة الثأرية في قراراتها المقبلة، وبالتالي تحول هذه المعركة إلى كارثة انسانية يكون ضحاياها الأساسيون المدنيين الفلسطينيين، فيمكن لهذا الدعم أن يتراجع سريعاً، بل حتى يتلاشى خصوصاً في جانبه الأوروبي. 

إسرائيل اليوم أمام فرصة واختبار حقيقيين. سيكشف سلوك حكومتها في الأسابيع المقبلة عن الدروب التي ستذهب فيها المنطقة: السلام الحقيقي أو المزيد من التدهور، بغض النظر عن الرغبات والسيناريوهات الغربية.  

يتبع