الجميع تقريبًا يدرك أن الدعم الغربي لإسرائيل ثابت منذ نشأتها، ولكن الصدمة هذه المرة كانت في مخالفة هذا الدعم لأبسط قواعد ما تسمى "الصوابية السياسية"، ومعايير حقوق الانسان المتفق عليها دوليًا، والتي طالما أدعى الغرب بأنه المدافع الأمين عنها.

زفرة الغربي الأخيرة

أكثر ما زاد من الصدمة، صدور بعض التصريحات الغير مسؤولة من مسؤولين وسياسيين غربيين، حول طبيعة الصراع "الديني"، والعدائية الشديدة في بعضها تجاه العرب، وعدم احترام مصالحهم وآلامهم.

كرد فعل يبدو طبيعيًا، ظهرت عدة تساؤلات وشكوك عربية، حول حقيقة تغير الذهنية الغربية، وأنها مازالت حبيسة لنظريات "التفوق" العرقي و/أو "عبء" الرجل الأبيض، الذي ينظر لبقية الأعراق الأخرى نظرة دونية، ورغم وجود هذه التصورات بالفعل، إلا أنه قد يكون من المفيد البحث عن الأسباب الأخرى، لصعود هذه الظاهرة.

يعيش الغرب الجماعي لحظة مفصلية من تاريخ هيمنته العالمية، التي بدأت منذ القرن الخامس عشر، بعد اكتشاف العالم الجديد، وتوسع أراضيه وممتلكاته بشكل كبير، وترسخت هذه الهيمنة منذ القرن السابع عشر بشكل بدا أنه لا رجعة فيه مع صعود الظاهرة الاستعمارية، التي أدت لتراكم ضخم للثروات، وتطور صناعي ثم تقني بينما توقف مسار التنمية من المستعمرات، وحدث انقطاع وتشوه حضاري لدى الكثير منها.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تولت الولايات المتحدة، مركز القيادة الغربية، وتمكنت من إزاحة منافسها الوحيد وقتذاك (الاتحاد السوفييتي)، وهو ما رسخ عقيدة التفوق الغربي في ذهنية معتنقيها. لكن المتغيرات التي يشهدها العالم، ولم يعد من الممكن تجاهلها، بعد صعود الصين والهند وبلدان جنوب شرق آسيا والخليج العربية، وغيرها من البلدان الأفريقية واللاتينية، بدأ يهز بعمق هذه العقيدة.

ربما أفضل من عبر عن هذه المتغيرات الغير متوقعة بالنسبة للعديدين في الغرب بل والصادمة، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2019، لسفراء بلاده، قائلاً "نحن نعيش حقبة تمثّل انتهاء الهيمنة الغربية على العالم، وهناك قوى جديدة في العالم تظهر وتتقدم، ولقد أسأنا تقدير قدراتها مثل الصين والاستراتيجية الروسية التي يقودها فلاديمير بوتين بنجاح".

تاريخيًا، عندما تتعرض القوى المهيمنة لصدمة التراجع، تصبح أكثر عدوانية وشراسة، ويصدر عنها في الغالب تصريحات وسياسات غير مدروسة.

على سبيل المثال، اندفعت الإمبراطورية البريطانية لسياسات متهورة في أزمة السويس عام 1956، والتي كانت من نتائجها أفولها وغروب شمسها بلا رجعة.

وتكرر الشيء نفسه مع فرنسا بعد قيام الثورة الجزائرية. جزء رئيسي مما نسمع ونشاهد اليوم من تهور غربي يضر به وبمصالحه قبل كل شيء نابع من شعوره بالضعف، وعدم القدرة على ضبط العالم ومسار أحداثه كما تعود منذ عقود.

الخطر الأكبر، أن ننساق عربيًا بعواطفنا، ونتحول لردود فعل دون فهم أسباب هذه الظاهرة، لنتخذ سياسات متهورة أو نتماهى مع أصوات متطرفة تدعو لصراع على أساس ديني أو حضاري مع الغرب، والذي لو حدث ربما يكون المخرج الوحيد لهذا الغرب لإعادة فرض هيمنته المتراجعة والمتداعية بشدة. ما يحدث الآن كما يقال باللهجة الدراجة المصرية "حلاوة روح" لقوى فقدت هيمنتها، ولا سبيل لعودتها من جديد، ما التزمنا بالخط والمسار الذي بدأ مع مشاريع الرؤى الجديدة التي خرجت من بلدان الخليج العربية، والمدركة لحقائق العالم الجديد ومتغيراته، وكيفية التعامل معها، واستغلالها ليس لصالح بلدان الخليج أو بعض دوله فحسب، بل ولكل المنطقة.

مواطن الخلل العربي

على الرغم من كل ما سبق، لا ينبغي أن نعفي أنفسنا من المسؤولية، في عدم احترام الغرب لمصالحها وآلامنا، ولو تتبعنا كل المواقف الغربية تجاه قضايانا المركزية، وعلى رأسها قضية فلسطين، وحق شعبها في إقامة دولته المستقلة، قبل وبعد ما يسمى "الربيع العربي"، سنجد أن هناك فارق كبير مرتبط بما جرى فيه من أحداث.

عندما رأي الغرب أن الدماء العربية بلا قيمة، ومشاهد القتل والذبح والحرق والتدمير المروعة في سوريا وليبيا ومن قبلها العراق، وهيمنة المليشيات المسلحة على بلدان بأكملها مثل لبنان واليمن، من الطبيعي أن تجد الدعاية التي يتم الترويج لها بنشاط بأن المنطقة عبارة عن محيط من الفوضى والدماء، وغياب سلطة القانون والانضباط، وأن إسرائيل وحدها، هي جزيرة الاستقرار وسط هذا المحيط الهائج، مع ما تدعيه من تبنيها للقيم الديمقراطية الغربية.

من الأمور اللافتة عن متابعة التغطية الغربية لأحداث غزة، وضع مقارنات بشكل دوري من قبل المعلقين الإسرائيليين بين عدد الضحايا من النساء والأطفال والشيوخ، والمدن المدمرة من قبل النظام السوري و/أو الجماعات الإسلاموية المتطرفة ومن أطلقوا على أنفسهم "ثوار" في ليبيا وغيرها من البلدان العربية، وبين الضحايا الفلسطينيين من جراء الصراع مع إسرائيل، وكيف تبدو الأخيرة أكثر "رحمة" بالعربي من العربي نفسه، وبلغة الأرقام وعدد الضحايا، تبدو هذه الرواية ذات مصداقية، وقادرة على التأثير في الوجدان الغربي، وتعزز من نظرية "حق" إسرائيل في الدفاع عن نفسها بكل الطرق والسبل في مواجهة هؤلاء "البرابرة" الذين لا يتورعون عن ارتكاب الجرائم والمجازر البشعة بحق أبناء جلدتهم.

نحن من سقط أولاً في درس الإنسانية، حيث تعاني أغلب البلدان العربية من الفوضى والدمار، وبتنا المصدر الأكبر للاجئين والإرهابيين حول العالم، مع عدم مساهمتنا في الحضارة العالمية بأي قيمة تذكر، والاكتفاء بالاستهلاك وبيع المواد الخام، والدخول في نزاعات وصراعات غير محسوبة، ولصالح قوى أخرى إقليمية على وهم مناصرتها لقضايانا العربية، فكنا "كالمستجير من الرمضاء بالنار".

الخاتمة

اثبت المواجهة الحالية أن الصراع الديني لا أساس له، حيث دعا كبار المشاهير ورجال الدين من اليهود لوقف القتال بين الطرفين، والحاجة للعودة للهدوء والسلام و/أو انتقدوا السياسات الإسرائيلية في عقابها الجماعي لسكان غزة.

الصراع الحضاري، يبدو كذلك لا مكان له في أحداث اليوم، النابعة في المقام الأول من التنافس الجيوبوليتيكي بين القوى الكبرى في العالم وأقاليمه المختلفة.

نحن في الشرق أصل التنوع في هذا العالم، ومنطلق الحضارات الإنسانية المؤسسة التي أثرت في الحضارة اليونانية ثم الرومانية، والعربية الإسلامية وصولاً للغربية التي تمثل الجامع لكل هذه الموروثات الحضارية ولكن بقيادة وخصائص غربية.

الشعوب الغربية خلافًا لحسابات زعمائها، أظهرت موقفًا نبيلاً متعاطفًا ومتفهمًا لقضايانا، وهو ما ينفي عن الصراع أي صبغة عنصرية، ومكسب بحاجة لتعزيزه عبر مزيد من التواصل العربي مع الغرب، ومخاطبته باللغة التي يفهمها.

الانحياز المطلق، والكذب الفج من وسائل اعلام عريقة، وسياسيين كبار، وضح للكثير من الشباب العربي الذي افتتن بالقيم السياسية الغربية أن الديمقراطية والحريات ليست مطلقة، وأنها ليست بالضرورة سر تقدم وتطور الأمم، بل نتاج لتطور المجتمعات أولاً، وأننا بحاجة للتعلم والاستفادة من كل المنجزات الحداثية الغربية لكن مع احتفاظنا بنمط وأسلوب حياتنا الملائم لبيئتنا.

مجددًا، العالم يتغير، والهيمنة الغربية تشهد مرحلة نهايتها. سيظل الغرب قويًا وقادرًا، لكنه ليس الطرف الوحيد المهيمن، وعلينا أولاً أن نصلح ذواتنا، ونعيد بناء دولنا، ونصبح فاعلين في الحضارة الإنسانية عبر الإنتاج والابداع والابتكار، وبناء السلام والازدهار لشعوب المنطقة، ليحترمنا الغرب الذي يقدم مصالحه أولاً وقبل كل شيء على أي اعتبارات أخرى، وهو الدور الذي يبادر الخليج الآن بفعله عبر سياسات ورؤى وتحالفات جديدة، آخرها القمة الخليجية مع دول رابطة الآسيان، ليتحول العالم العربي وفي القلب منه الخليج لنقطة ربط ووصل للتجارة والاستثمار والازدهار والسلام العالمي.