وبعيدا عن الإدانة والتأييد، فنحن أمام محاولة لفهم الحوار والخطاب المنتشر مؤخرا.. خاصة بين الأجيال الشابة والجديدة.

والحديث هنا، عن تعاظم الفجوة الكبيرة بين الحكومات والسلطات والطبقة الحاكمة أو ما يُسمى بـ"النخب" وبين المواطنين، ما يعد سببا رئيسيا في انتشار مثل هذا الخطاب، الذي بدأ يأخذ حيزا كبيرا من طريقة تفكير الناس.

الفجوة وسوء الفهم واللغة المختلفة بين الطبقة الحاكمة المؤثرة والمواطنين بدأت تظهر آثارها تظهر بشكل جلي، وكذا تداعياتها في كافة الدول "حيث لا يقتصر الأمر على ما يسمى بدول العالم الثالث".

ببساطة، يمكننا القول إن الجمهور اليوم، مشكك، متسائل، محلل، لكافة الأحداث والقضايا، وهذا أمر طبيعي. 

فكر المؤامرة والتشكيك بطبيعة وقوع الأحداث.. لعله بدأ بالتمدد والانتشار أكثر من ذي قبل بعد عصر كورونا.. حيث بدأت الجائحة وانتهت، وسط أسئلة مستمرة عن مصدر هذا الفيروس.. وحقيقة اللقاحات.

فكرة ومشهد فرض حظر التجول على الناس.. وإيقاف عجلة الحياة تماما.. بالقوة في كافة دول العالم.. كان مشهدا مخيفا وصادما للجميع.

أن يتم تغيير مصير الناس وأسلوب حياتهم بين ليلة وضحاها... وما ترتب حتى عليه من تغيير أسلوب عمل الناس.. وفقد الكثير منهم لمصادر دخلهم حتى.. تغير أحلامهم.. أولياتهم.. حياتهم الاجتماعية، العاطفية.. فما حدث عام 2020.. تداعياته كانت كثيرة وكبيرة وعميقة.. وتدخل حتى بتفاصيل حياة المرء بإدراك منه ودون إدراك.. إلى اليوم.

المهم.. ما حدث قد حدث.. وإن اعتقد البعض فيه نقصا في المعلومات أو وجود إجابات شافية عن ظهور أوبئة وطفرات جديدة.. وسط ما تقذف به وسائل التواصل من أخبار مزيفة وتشكيك مستمر، ونظريات مؤامرة.

وهذا حتما ما جعل المجتمعات تبدأ بالتساؤل والتشكيك في كل شيء.. في كل خبر.. في كل موقف جديد، بما في ذلك ظهور بعض الدول مثل روسيا في بداية أزمتها مع أوكرانيا وإعلانها عن وجود معامل ومختبرات بيولوجية أميركية في أوكرانيا، منخرطة في ممارسة "أنشطة بيولوجية واسعة النطاق".

ومثل هذه التصريحات مثلا، بالتأكيد ستعزز من فكر المؤامرة، وتآمر النخب على المواطنين، بتقليل عدد السكان، والإضرار بمصالح العامة، وتشتيتهم.. إلخ.

حتى وصلنا لمرحلة التشكيك بحقيقة الزلزال والأعاصير. فالكثير يشكك بطبيعة هذه الظواهر. وإن كانت من فعل الإنسان حقيقة أو طبيعية تماما، لدرجة تشكيك رئيس دولة في الإعصار دانيال واعتباره "مؤامرة"!

الأمر لا يتوقف هنا فحسب.. فمنذ سنوات طويلة.. اعتاد الناس التجمهر أمام التلفاز ليلة رأس العام الجديد والاستماع لما يُسمى "العرافون" .. ومن يتوقعون أحداث عالمية.. مؤخرا بدأ التشكيك بحقيقة هؤلاء وانتمائهم لأجهزة مخابرات وأطراف تزودهم حقيقة بالأحداث المخطط لها.. كجزء من غسيل أدمغة العامة.. وتطبيق مشاريع معينة وخطط معينة تفرضها "دول عميقة" أو "النخبة" أو من يملكون السلطة.

هل يجب التقليل من شأن هذا الخطاب؟ أو أخذه على محمل الجد.. وهل هناك جزء من الحقيقة في كل حوار وكل خطاب، وهل يجب الاستهزاء فقط بالتساؤلات والتشكيك وفكر "المؤامرة"؟

من نافلة القول، أن الناس يستحقون معرفة الحقائق وإدراكا والوعي بها، خصوصا.. ونحن اليوم في عصر الوعي. عصر العلم والمعرفة. والانفتاح المعرفي والتكنولوجي والعولمة.

حتى وإن كان ربما أداة لترسيخ عالم جديد قائم على فكر الاستهلاك ولخدمة النخبة ولتعميق عالم رأسمالي مادي قاسي أو لنشر أجندة معينة أكثر، لكن كان له أيضا أثر بزيادة الوعي الجمعي للبشرية.

ومع ذلك، ومع انتشار الحوار وتبادل الأفكار والثقافات وترسيخ التساؤلات والتشكيك بالمعتقدات والمسلمات، أصبح الأمر أكثر صعوبة في السيطرة على تساؤلات الناس أو وعيهم وإدراكهم.

والواقع، أن الناس اليوم يستحقون معرفة الحقائق والوقائع وسط التطور المتسارع بشفافية، كمعرفة الظواهر الفضائية والطبيعية وتفسير نظريات المؤامرة التي أشغلتهم عقودا، ما يحتم على الحكومات والطبقات الحاكمة والنافذة العمل في إعادة بناء جسور الثقة مع الجمهور من جديد.