في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة توسع من انتشارها العسكري في المنطقة، و تعدّل من تموضعها في العراق، وعند ضفتي الحدود المشتركة مع سوريا، مطلقة شائعات في الوسائل الإعلامية عن عزمها على قطع "الممر الإيراني" الذي يربط بين طهران، بغداد ودمشق وصولا إلى بيروت، كان "المطبخ الدبلوماسي" يعمل بلا هوادة على إنجاز صفقة تبادل إطلاق سجناء من البلدين وتحرير أصول إيرانية تقدر بـ6 مليارات دولار أميركي.
فوفق آخر المعلومات فقد تمت الصفقة التي أجاز لها الرئيس الأميركي جو بايدن بالرغم من اعتراضات العديد من النواب والشيوخ الجمهوريين الذين اعتبروا أن الصفقة تصب في مصلحة طهران، وتسهم في تمويل مجهودها الحربي الذي يهدد منطقة الشرق الأوسط والمصالح الأميركية، ومع ذلك لم تتراجع الإدارة الأميركية عن الصفقة التي تخدم الطرفين لعدة اعتبارات.
أولا: حاجة الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يزمع الترشح عن الحزب الديمقراطي لولاية رئاسية ثانية في خريف العام المقبل، إلى مراكمة ما يستطيع من الإنجازات الداخلية والخارجية في مرحلة تحوم فيها شكوك على المستوى السياسي الأميركي والرأي العام حول مدى أهليته لتبوء المنصب وهو في عمر تجاوز الثمانين.
ثانيا: إن واشنطن وبعدما فقدت الأمل بدفع طهران للعودة إلى الالتزام بالاتفاق النووي للعام 2015، تبغي ممارسة سياسة الترغيب والترهيب عن طريق حشد قوات وإبراز "أنيابها" واستعدادها للقتال في الشرق الأوسط، وفي الوقت عينه تلوح لطهران بمكاسب خصوصا مالية لقاء تهدئة في الإقليم، وعدم عسكرة برنامجها النووي إلى حد إنتاج قنبلة نووية، علما أن الأموال التي سيرفع عنها الحظر الأميركي ستستخدم أقله رسميا لشراء أدوية ومواد غذائية وفق ضوابط وضعتها واشنطن بهدف عدم وصولها إلى المؤسسة العسكرية والأمنية الإيرانية.
ثالثا: ترسل واشنطن إشارات إلى المنطقة بأنها تبقي خياراتها مفتوحة على الدوام بما يناسب مصالحها، وإن الصفقات مع إيران لا تلغي حقيقة الصراع الدائر في المنطقة بين الطرفين، ففي وقت ترفع فيه واشنطن من جهوزيتها العسكرية في المنطقة، لاسيما حول العراق وسوريا، تنجز صفقات مع الإيرانيين مباشرة كالصفقة الحالية، أو عبر وكلاء طهران الإقليميين (حزب الله) كصفقة ترسيم الحدود البحرية اللبنانية – الإسرائيلية التي تمت صيف العام 2022 لأهداف نفطية واضحة تخدم كل من إسرائيل و "حزب الله".
رابعا: من جانبها وللمفارقة أرادت طهران أن تبعث بإشارات للداخل وللخارج مفادها أن حكومتها المنبثقة عن التيار الأصولي المتشدد، لديها قدر من "البراغماتية " يكفيها لإنتاج تسويات مع الخصوم أكثر من الحكومات المنبثقة عن التيار الإصلاحي التي يميل الغرب إلى التعامل معها.
خامسا: استنتاجا، ومع كل ما سبق لا تمثل الصفقة الأخيرة ضمانة دائمة بعدم الاصطدام بين واشنطن و طهران، لا سيما أن الأخيرة ترفع في العراق، وسوريا ولبنان شعار إخراج الأميركيين من المنطقة، في حين أن الأولى ترد رافعة شعار قطع "الهلال الشيعي" عبر الممر عند الحدود العراقية – السورية لتجفيف الإمدادات الإيرانية لوكلائها في سوريا ولبنان.
سادسا: يبقى الملف النووي الإيراني عالقا، ويتأرجح بين انتهاكات طهران الخطيرة على صعيد عرقلة مهمة مفتشي "الوكالة الدولية للطاقة الذرية "، ورفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى درجة نقاء تفوق الـ 60 في المئة ، قريبة من مستوى عسكرة البرنامج ( 90 في المئة )، وبين الحيرة التي تتملك الأميركيين والإسرائيليين حول أساليب الرد في حال قررت طهران إنتاج قنبلتها الأولى، هذا وسط تقديرات معظم العواصم الغربية بأن إيران قادرة على إنتاج أكثر من 10 رؤوس نووية في غضون بضعة أشهر.
في جميع الأحوال، تشكل الصفقة الأخيرة بين واشنطن وطهران جزءا من مسار تخادمي ثابت خلال ولاية الرئيس جو بايدن، أما في حال عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بعد انتخابات شهر نوڤمبر 2024 أو وصول رئيس جمهوري آخر، فقد يتبدل المشهد بشكل كليّ.