تلقّيتُ اليوم خطاباً بالبريد الإلكتروني من السيد إغناثيو دي ثيران، ترجمان أعمالي إلى الإسبانية، يستفهم فيه عن مواقفٍ، لإبطال قصة قديمة لي بعنوان: «السيل»، يلهمني وجوب العودة لاستنطاق هذا المارد، الذي لعب دوراً فروسيّاً في أكثر من عمل، بدايةً بسيرة «الصلاة خارج نطاق الأوقات الخمسة»، مروراً بسيرة «نذر البتول»، ونهايةً بـ«السَّيل»، لسببٍ وجيه، هو طبيعة هذا البطل في عوالم الصحراء، سيّما عندما يستعير صيغة طوفان، كما فاجأنا بالأمس في قيّامة «درنة»، ليفقدنا ألوف الضحايا، في مهلة قياسية، هي سابقة تاريخية، لم تزد عن بضع ساعات، لتشهد بموجبها هذه المدينة الأسطورية مصيراً خرافياً، لا يختلف عن مصير أطلانطيدا، أو «تيرا» اليونانية، فنكابر عندما ننعتها بـ«المنكوبة»، لأنها في الواقع أضحت «مفقودة»!

وعلّ أوّل خطأ نقترفه في حقّ أنفسنا هو معاملة السيل بوصفه ضيفاً عابراً، وننسى، أنه، في الواقع، نهر. نهر، كل ما هنالك أنه نهرٌ زائل. نهرٌ زال وقتيّاً، ولكن ما يجب أن نعيه أنه نهرٌ لا ضمان لاستمرار زواله، لأن الطبيعة تقول أن مزاج المناخ هو علّة اغترابه من واقع هذا المكان، في يابسةٍ اعتادت، أن تعتنق دين التحوّل، الذي لا يعترف بدوام شيء في الوجود، فيمحو اليوم، ما جاد به بالأمس، كما يستعيد عطايا بالأمس، ليجعلها غنيمة الغد، في دوراتٍ متوالية، لا تستقرّ على حال؛ لأن الحركة هنا هي وقود الطبيعة، التي يجب أن نتصالح معها، فنعاملها كأمّ، لا كأمَة (بفتح الميم)، فنأخذ منها غصباً، ما لم تهبه لنا طوعاً، وإلّا عرّضنا أنفسنا لأقسى أجناس القصاص، في حال استهترنا بهذا القانون، كأنْ نستجدي غيوثاً، ثم نسترخي، ولا نتوقع الغرق، الذي يصاحب هذه المنحة الإلهية، التي لا تقدّر بثمن، في عالمٍ عصيّ، ظامي أبديّاً، كالصحراء، في وقتٍ اعتدنا فيه أن نستسلم لوهم الديمومة في واقعٍ، اليبوسة فيه طاغية، إلى درجة آمنّا فيها بإسم الصحراء كرديفٍ لغياب المياه، كترجمة جائرة لغياب الحياة. وهو ما لن يعترف به حكماء الصحراء، الذين قرأوا حقيقتها لثراء تجربتهم في معاندة الطلسم في أبجدية معجمها، الذي يقول أن السيل زال من قاع الوادي حقّاً، ولكنه قادم حتماً، والآية، في هذا اليقين، هي هذا الوَسم، هذا الأخدود هذا الطريق، هذه البصمة، التي سطّرها في صفحة اليابسة، لتغدو له البرهان على حضورٍ قيد الوجود، في نزعة طبيعةٍ تدمن المحو، بقدر ما دلّلت كم هي مفتونة بالخلود، فتبعث إلى المنافي أجراماً راهنت على البقاء أبداً، كما تستعيد من غياهب الغيوب ما حسبناه غنيمة فناء، لتلقّننا درس التغيير، تلقّننا ضرورة التغيير، لأن في التغيير يسكن التحرير!

فهي، بهذا التحرير الأبديّ، تخبرنا ضمناً: احترسوا! فأنا لم أحرث هذا اليبيس من باب التسلية، ولكنه توقيعي، المتوّج بوسام مشيئتي، لأستخدمه وعاءً لغيوثي، التي أجود بها كلّما حان الميعاد لبثّ الأنفاس في تلك البذار، المدفونة أجنّةً في باطن أديمي، لأن لها أيضاً الحقّ في أن تستيقظ من سباتها يوماً لتغذّي كائناتي، فتُحيي كما أُحيي، لأن طينتها من طينتي، وروحها نفحة من روحي، لأن كل شيء في محيطي يستعير وجوده من وجودي، لنتضامن في نشاط كوكبٍ، الكل فيه آلة تؤدي دوراً في فلكٍ يسبح ويسبح ويسبح؛ يسبح ليُسَبّح! والجاهل وحده يبيح لنفسه أن يتخذ من ختمي وطناً، ليهجع في رحابه بسلام، ثمّ يستنكر أن يجرفه السيل، عندما يبلغ المخاض الأجل، فتجود السماء بحمولتها، وتتزلزل الأرض بإقامة قيّامتها! فالوادي هو داري، هو سكني، الذي جعلت فيه أرواح الكائنات خليفةً، فهو مسكون بما هو أعظم شأناً من الزواحف أو الهوام، أو الطير، أو الوحوش، أو الحشرات، أو النباتات، بل مسكون بروح الأمومة، الملقّبة في لسان القبائل باسم الطبيعة، منتظرةً حلول ميعاد الخلاص، لتدلي في واقع الجدب الطويل شهادتها، فلا تضمن ألّا تختطف لها القرابين من بين البلهاء الذين استهانوا بالوصيّة فاستكبروا!
إقامة السدّ لتخزين السيل؟

ذاك كان، في الناموس، فصلاً آخر من حملة الجنون البشري، الذي برهن مرة أخرى على جهله بحقيقة هذا المارد المدعو ماءً، لأن لا وجود في الطبيعة لقوّة يمكن أن تقارن بقوّة الماء، فهو وحده يتحدّى الحدود، ويستهين بالسدود، ولو كان بالوسع إيقافه بمكيدة عبقرية لما ارتضى أن ينتحل هوية الماء، لأن دينه أن يسيل، وديدَنه أن يجد لنفسه طريقاً في كل شيء، ليكون جديراً بمعدن السيل، المستعار من السيولة، فإن أعجزه أن يسيل، فهو ليس سيلاً، ليس سائلاً، ليفقد، بهذا الشلل، طبيعة وجوده، المستعارة من الطبيعة التي لا تعترف لأحد بأية حقوق، لأن العرف في سياستها هو أن تروّضنا على ما نكره، ولا ترتضي لنا رسالةً سوى أداء الواجب: واجب أن نحرص على التشبّث بتلابيبها، ونحترس في أن نسيء إلى كائناتها، أو نستهين بقوانينها، بأن نعي أن هذا الإنسان، الذي نستأنس بحضوره في رحابها، هو لغز ألغاز، وإلّا لما اصطفته السماء ليكون ناطقاً بإسمها، ليؤمن مع مَن آمن بأن تحت كل حجر في مقبرة يهجع عالم كامل، كما تغنّى الشاعر، فإن كان عالماً كاملاً هو رفات في جوف تراب، فكيف به إذا دبّ على الأرض بيننا على قدمين؟

ألن يشلّنا الهول عندما نكون شهود عيان على القيّامة، الناتجة عن سوء قراءة صحيفة الطبيعة، لنحصد في ساعة واحدة هجرة آلاف العوالم، التي دفنّاها بموجب هذه الخطيئة؟

فإذا كان التجديف في حقّ القوانين الدنيوية كابوساً، فإن ثمن التجديف في حقّ قوانين الطبيعة قيّامة!