وعلى الرغم من أن الاقتصاد الصيني مازال ينمو بمعدل يفوق 3%، لكنه مع ذلك مخيب للآمال، ليس للصين وحدها، بل للاقتصاد العالمي، الذي لعبت الصين دورا كبيرا في نموه خلال العقود الأربعة المنصرمة.

وبالمقارنة، فإن النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة يقترب الآن من 6%، على الرغم من رفع أسعار الفائدة، الذي يهدف بالدرجة الأساس إلى إبطاء الاقتصاد من أجل خفض معدل التضخم.

ويرى اقتصاديون أن الاقتصاد الصيني يؤثر، سلبا أو إيجابا، على دول العالم أجمع، فقد أنقذ الاقتصاد العالمي خلال الأزمة المالية في الفترة 2007-2009، لأنه كان الاقتصاد الوحيد القادر على تقديم محفزات قوية، ساهمت في كبح الأزمة المالية، وإنعاش الاقتصاد العالمي وإعادة الثقة إليه. كما أن قوة الاقتصاد الصيني وإصرار القيادة الصينية آنذاك على إبقاء النمو الاقتصادي بمعدل 8%، قد خفف من الأزمة المالية الآسيوية، التي عصفت بمنطقة جنوب شرق آسيا عام 1998.
ويرى خبراء دوليون أن الإدارة الاقتصادية الصينية لم تعد بالكفاءة التي كانتها خلال العقود الأربعة المنصرمة، والسبب هو أنها لم تعد تتمتع بحرية اتخاذ القرار، إذ صارت القرارات الاقتصادية المهمة تُتَّخذ مركزيا، ولم تعد هناك حرية مطلقة للمخططين الاقتصادين في المناطق المختلفة، بحيث يتصرفون وفق ما تمليه عليهم الظروف الاقتصادية المتقلبة.

وعلى سبيل المثال، يرى خبراء أن قرار الإغلاق الكلي، أو شبه الكلي، خلال جائحة كورونا، لثلاثة أعوام تقريبا، من 23 يناير 2020 إلى 7 ديسمبر 2022، كان قرارا مركزيا ولم يكن موفقا، خصوصا اتباع سياسة "تصفير الإصابات" بكوفيد 19، التي انفردت بها الصين، إذ لم تلجأ إليها أي من الدول الأخرى، التي أغلقت لفترات محددة، ثم خففت القيود حسب تغير الجو، وقدرة المستشفيات على استيعاب المصابين، خصوصا عندما ينخفض العدد عند اعتدال الجو.

والغريب أن رفع السلطات الصينية القيود الصحية على الاقتصاد في ديسمبر من العام الماضي، لم يؤدِ إلى الانتعاش الاقتصادي المتوقع، بل كان النمو قصيرا جدا، واقتصر على تصريف البضائع المتكدسة وتلبية الطلبات المقدمة سابقا، التي لم تُلبَ بسبب القيود الحكومية.

ويخشى محللون من أن الصين ربما تدخل في "فجوة انكماشية"، كما حصل في اليابان في التسعينيات، وأن هذه الحالة سوف تؤثر على الصين أكثر من اليابان، لأن الشعب الصيني أفقر كثيرا من الشعب الياباني، ويتكشف هذا عند إجراء مقارنة بين البلدين، فالمستوى المعاشي في الصين يعادل 38% مما هو في اليابان، حسب بيانات مؤسسة "كلفة المعيشة" العالمية المتخصصة (livingcost.org)، وحوالي 20% مما هو في الولايات المتحدة.

وتتسبب الفجوة الانكماشية بهبوط الأسعار إلى مستويات متدنية، يصاحبه انخفاض تدريجي في الأجور وارتفاع في البطالة، بسبب تسريح الشركات لأعداد من موظفيها نتيجة لتدني أرباحها، وهي من أخطر ما يواجهه الاقتصاد في أي دولة، لأن معالجتها تحتاج إلى تحفيز الاقتصاد باستثمارات وأموال طائلة، وهذا ليس متاحا لكل الدول في كل الأوقات، خصوصا الفقيرة منها.

المجتمعات الغنية، التي ادَّخرت أموالا كافية في سني الانتعاش الاقتصادي، يمكنها أن تتجاوز الصعوبات الناتجة عن الفجوة الانكماشية، عبر الاستعانة بمدخراتها، التي تديم النشاط الاقتصادي وتساهم في إبقاء الأعمال والمتاجر عاملة، أما الشعوب الفقيرة، خصوصا تلك التي تعيش الكفاف، ويكون فيها مستوى الادخار منخفضا، فإنها لا تمتلك مقومات الصمود، الأمر الذي يفاقم المشكلة ويديمها لفترة طويلة.

كان الصينيون يتغلبون على الركود عبر الإنفاق وتسهيل القروض، خصوصا في قطاع العقارات الكبير، الذي يوظف ملايين الصينيين، والبلد بحاجة دائمة له، بسبب عدد السكان الهائل، لكنهم الآن لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك، بسبب التوسع في هذا القطاع خلال السنين السابقة، خصوصا في الفترة التي تلت ركود عام 2010.

كما أن القطاع قد تكبَّل بالديون، التي بلغت 16% من الناتج المحلي الإجمالي، حسب مجلة الإيكونوميست، وأي تحفيز مصطنع له سوف يخلق مشكلة أكبر في المستقبل، خصوصا مع تناقص عدد السكان. إضافة إلى ذلك فإن الرئيس شي جينبينغ لم يعد يحبذ الإجراءات المصطنعة لتحفيز الاقتصاد، وقد حدد العجز في الموازنة العامة بنسبة لا تتعدى 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة مقيِّدة، إذ لابد من الاقتراض لتحفيز الاقتصاد أثناء الأزمات، كما تفعل دول عديدة، أولاها الولايات المتحدة، إذ بلغت نسبة العجز 13.4% عام 2021، وفق البيانات التي نشرتها اللجنة المسؤولة عن الموازنة الاتحادية الأميركية.

هناك بيانات مشجعة في الاقتصاد، فالصين مازالت أكبر مصدِّر للسيارات في العالم، وقطاع الصناعة هو المساهم الأكبر في الناتج المحلي الإجمالي، متفوقا بذلك على الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي معا. لكن الشركات العالمية أخذت تسحب أرباحها، وتستثمرها في أماكن أخرى، إذ غادر الصين 26 مليار دولار في يوليو الماضي وحده، حسب بنك غولدمان ساكس، الذي خفَّض توقعاته للنمو الاقتصادي الصيني لعام 2023 من 6% إلى 5.4%، منذرا بحدوث اختلالات واسعة. ولم يكن إعلان البنك المركزي الصيني الأسبوع الماضي، بعدم خفض أسعار الفائدة، مشجعا للنمو الاقتصادي أو الاستثمارات الأجنبية، خصوصا مع تواصل انخفاض معدل التضخم.

التصعيد مع الولايات المتحدة أضر كثيرا بالصين، منذ عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي بدأ بإجراءات تحِد من النفاذ الصيني إلى الأسواق الأمريكية، بل وتحِد حتى من الاستثمارات الصينية في الشركات الأمريكية. التنافس والخلافات بين البلدين قائمة منذ انتهاء الحرب الباردة في عهد الرئيس جورج بوش (41)، بل حتى قبلها في عهد الرئيس رونالد ريغان، الذي طالب برفع قيمة العملة الصينية لأن انخفاضها يجعل الصادرات الصينية إلى أمريكا رخيصة الثمن، الأمر الذي يكون على حساب المنتجات المحلية المماثلة.

لكن التصعيد والتهديد بضم تايوان بالقوة، ومساندة روسيا في حربها مع أوكرانيا، والخلافات الحادة مع اليابان وأستراليا، ومشروع طريق الحرير، والتهديد بإغلاق بحر الصين الجنوبي، أو منع الدول الأخرى من استخدامه، قد دفع، ليس الولايات المتحدة فحسب، بل العالم الغربي بأجمعه، للانتباه إلى سياسة المواجهة التي تتبعها الصين.

الولايات المتحدة تعلم تماما نقاط قوة الصين وضعفها، ولا ننسى أنها هي التي تعاونت، بل تحالفت معها ضد الاتحاد السوفيتي السابق، ومهدت لنهضتها الاقتصادية الحالية بتقديم التكنولوجيا المتوسطة لها، وفتح الأسواق الأمريكية أمامها. وظلت سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين قائمة على مبدأ "الاستيعاب"، من أجل سحبها تدريجيا إلى الاقتصاد الحر، الذي يقود إلى التحول الديمقراطي، من وجهة النظر الأمريكية.

وهناك مبدأ أمريكي آخر في التعامل مع الصين، وهو الذي عبَّر عنه الرئيس بيل كلنتن بالقول إن "الصين الضعيفة أكثر خطرا على الغرب من الصين القوية"، بمعنى أن الضعيف سوف يتخندق ويدافع عن نفسه بشتى السبل المتاحة له، إذ ليس لديه الكثير الذي يخسره، بينما القوي يمتلك الكثير مما يمكن أن يخسره في المواجهة، لذلك فإنه يسعى للمحافظة على مصادر قوته عبر الحوار والدبلوماسية.

بعبارة أخرى، كانت تقوية الصين وتحييدها هدفا أمريكيا، لكن هذا المبدأ الذي سارت عليه أمريكا لأربعة عقود، قد تغير إلى النقيض، فقد أقدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها على حظر تصدير التكنولوجيا المتطورة إلى الصين، وفرض تعرفاتٍ جمركية على صادراتها، وقيودٍ على استثماراتها، بعد أن اتضح للحلفاء الغربيين أنها صارت مناهضةً لهم علنا، بل تسعى لأن تكون قطبا مكافئا لهم.

وترى مجلة الإيكونوميست أن الأمر المهم بالنسبة للرئيس الصيني، شي جينبينغ، هو "عظمة الصين"، أكثر بكثير من التنمية الاقتصادية، وأنه يعتقد بأن على الصين "أن تتأهب لمواجهة اقتصادية وربما عسكرية مع الولايات المتحدة". قد لا تكون هذه الرؤية صائبة كليا، لكن القيادة الصينية الحالية لديها هذا الشعور، بعظمة الصين، وضرورة توحيدها، وتعزيز قدرتها على النهوض، بمعزل عن التعاون مع الغرب، أو ربما بمناهضته.

المخطِّط الاقتصادي والعسكري الصيني يعلم جيدا أن أي مواجهة اقتصادية أو عسكرية مع الولايات المتحدة وحلفائها، ستكون غير متكافئة، حاليا على الأقل، وأن الصين إن تراجعت أو خسرت اقتصاديا، فإنها سوف تخسر عسكريا واستراتيجيا أيضا، خصوصا وأنها الآن محاطة بحلفاء الولايات المتحدة، كاليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وأستراليا، وحتى الهند وباكستان، إلى درجة معينة.

اعتاد الصينيون خلال العقود الأربعة والنصف الماضية على قدر من الحرية، على الأقل الحرية في مناقشة القضايا الاقتصادية، وقد استفادوا كثيرا من الانفتاح الاقتصادي، الذي بدأه دنغ زياوبينغ، وطوَّره خليفتاه من بعده، جيانغ زمين وهو جينتاو، الانفتاح الذي انتشل 800 مليون صيني من الفقر المدقع، ليعيشوا حياة عصرية مريحة، وكل ذلك بفضل النمو الاقتصادي الذي ولَّده هذا الانفتاح.

وقد عزز هذا النجاح ثقة الصينيين بالحزب الشيوعي الحاكم، وقدرته على قيادة البلد نحو مستقبل أفضل، لكن أي تراجع سوف يُحسب فشلا وينعكس سلبا على شعبية الحزب. هامش الحرية الاقتصادية بدأ يتقلص، نتيجة للضغوط الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي تتعرض لها الصين، إذ بدأت المؤسسات الاقتصادية تحجب البيانات غير المحبذة، بينما أخذت البنوك الرسمية تقدم الدعم للعملة الصينية الآخذة في التراجع، بدلا من تركها للسوق كي تقرر سعرها الحقيقي.

من المستبعد أن تغير القيادة الصينية الحالية نهجها، خصوصا وأن المواجهة مع الغرب قد بلغت مديات متقدمة. ومع إلغاء العائق الدستوري لاستمرار الرئيس في السلطة لأكثر من دورتين، فإن من المتوقع أن تستمر سياسة الشد مع الولايات المتحدة، والعالم الغربي عموما، وهذا لن يكون في صالح الاقتصاد الصيني أو العالمي ككل.

الحرب مستبعدة كليا، فهناك عقلاء كثيرون في الصين والولايات المتحدة، يعلمون بأن الحرب ضرر كلي على الطرفين، وهي لن تقود إلى حلول نافعة. لكن التشدد، والإصرار على تحقيق "النصر المؤزر"، لن يخدم هو الآخر مصلحة الطرفين أو باقي شعوب العالم.

الرغبة في التفاهم بين المعسكرين مازالت قائمة، لكنها تتطلب تنازلات وتعديلات في السياسات والقوانين الحالية التي صارت تعزز الانعزالية والتقوقع. التنافس الاقتصادي مطلوب، ولكنه يجب أن يكون حرا، بمعنى، أن يبقى اقتصاديا، ولا توضع في طريقه عوائق سياسية أو عسكرية أو ثقافية. المعسكران بحاجة إلى أسواق بعضهما البعض، ومنافع التقوقع، إن وجدت، فإنها مؤقتة، لكن تبعاتها وأضرارها تبقى طويلا.