الاسم المهني للحدّاد مستعارٌ من كلمة «إينَض» في لسان أهل الصحراء الكبرى.
وتعني الكلمة حرفيّاً "تطويع"، أو القدرة على تقويم معدن مشبوه، بل مشئوم، في منطق ميثولوجيا القوم، وهو: الحديد، بحيث يستعير مواهب صارت حتّى في العربية مصطلحاً من اختراعه، مثل: الحِدّة في التعامل، أو الحدّ، بوصفه حجّة قصاص في معجم اللاهوت، أو بصفته تعبيراً عن التخوم الجغرافية الفاصلة بين الأمم، وهو ما لا يستقيم لهذا الساحر بدون الاستعانة بالأتون، بالأفران، بالجحيم!
والهالة الغيبيّة التي يخلعها إنسان العالم القديم على هذا الطقس محاولة للتعبير عن هذه الهويّة الناريّة. فبسبب التفوّق في التقويم، وفي فنون التطويع، انبثق في اللغات اسم "هنسوا"، الدالّ على "بيت الحدّاد"، لتمييزه عن بيت آخر مسكون باللهفة الروحية، وهو: "هنّكيت"، الدالّ في المصرية والليبية القديمتين على "المعبد"، أو حرفياً على "بيت القرابين" بوصفه النقيض دينيّاً. ومدلول "التقييم"، كترجمة الاسم الحدّاد في "إينَض"، أوْجدَ رديفاً خطيراً في اللغة هو: القدرة على تقويم اللسان كي ينطق بالحكمة في صوغ الوصيّة، أو المشورة، في تصريف شئون الدنيا. ليس هذا وحسب، ولكن ماهيّة الحدّة، التي يتحلّى بها كل حدّاد، انتقلت كعدوى لتسكن المخلوق، في صيغة إتقان استخدام عضلة مسمومة أصلاً هي اللسان، سواء في الجود بالشرور كفنون الذمّ، أو الجود بالخير، كأجناس المديح، فلا يعود الحداد مجرّد ساحر في سكّ المعدّات الحربية، أو الأدوات الدنيوية، ولكنه نصّبَ نفسه وصيّاً على الحقيقة، أو بالأصحّ، سطا تلقائياً على صلاحيات كهنة الواقع، المخوّلين وحدهم بالإفتاء في شأن الخير والشرّ. وهو انقلابٌ تاريخي، في تجربة الجنس البشري، زلزل النظام الطبقي؛ لأن الحكم، منذ الآن، سيغدو من نصيب رسول التقنية، أي: ملك الجحيم!
الخشية من حدّةٍ، هي مؤهّل في مسلك الحدّاد، بل وفي مهنة الحدّاد، هو ما استوجب مراسم الإكبار، المحاطة بشخص الحدّاد، من قبل العوام، اتّقاءً لنواياه، بل اتّقاءً لمواهبه السحرية، القادرة على أن تقلب الحقيقة أكذوبةً، والأكذوبة حقيقةً، بل والشرّ خيراً، والخير شرّاً، وذلك بفنون الدهاء، المستعارة من طينة فطنة فطريّة، وإلّا لما استطاع أن يفلح في تطويع هذا المعدن الشرّير، ليبدع منه مسكوكات تترجم حسّ الجمال، كما يبدع معدناً آخر ذي طبيعة أخرى، يحرّض على القتل. ليس هذا وحسب، ولكن التطويع، المستنزف، بمواهب هذا الداهية، يستطيع تقويم الأكذوبة، لتغدو حقيقة، في حال الجود بالمديح، كما يستطيع أن يطوّع الحقيقة، لتسويقها أكذوبةً، في حال راقه أن يستنزل صنوف الذّمّ في حقّ أبرياءٍ، لأن حدّة الحديد، التي هي طبيعة في معدن الحديد، عدوى لها القدرة على أن ترتحل، لتجري عبقريّةً في اللسان، كأنها تتولّى القيام بدور الترجمان!
وهكذا يغدو الحدّاد معلّماً في مدرسة الحكمة، حيث يلعب دور المستشار، الذي يُستجار به، لكي يدلي بـ الرأي الصواب، من خلال كلمة "إينَض"، المتداولة في لسان أهل الصحراء الكبرى، للبرهنة حرفياً على القدرة على الالتواء، أو تطويع، أو اختلاق المرونة في اللسان، بحيث تدلي بما يجب أن يقال، أي الصواب، محاكاةً لتلك المرونة السارية طبيعةً في معدن عصيّ على المرونة، كما هو الحديد. وهو مؤهّل كافٍ لاحتلال منزلة رفيعة، بقدر ما هي مشبوهة، لأنها ضربٌ من تعاطي الهدنة مع قوى الظلمات.
ولكن هذا ليس كل شيء في معدن السَمّ، وفي مفعوله كـ"سُمّ".
فنحن نستطيع أن نعامل صاحب الحديد كحكيم يتكتّم على روح الاستسرار، وإلّا لما أُوتِي مواهب مثيرة للجدل، لينال من الأبرياء موقفاً مزدوجاً، تمليه طبيعة الحرف الملتبسة، من باب التّقيّة!
فالأحجية إنّما تكمن في مفهوم هذه التّقيّة، التي لم تكن لتتبوّأ منزلة المفهوم الديني لو لم تكن احتيالاً ماكراً على مفردة ذات سطوة، ذات صلة بالتّقية، في حال احتكمنا للحرف، وهي: التّقوى!
فالتقيّة فرارٌ من تلك المكوس، المستوجبة الدفع، للفوز بمرتبة التّقوى، برغم أنها تبدو عملاً نبيلاً بوصفها دفاعٌ عن نفس. أي أن التقيّة هنا هي تقوى مزوّرة، وأمّة الحدّادين أعلم الناس بحقيقتها، مادامت رعيّة الرّاعي هي التي تتّقيهم، وليسوا هم مَن عليهم أن يتّقوا شرعيّة وجود راعٍ لقطيعٍ هو الرعيّة. فكل عمل صاحب الحديد، بما هو سادن مسكون بروح سَمّ الخِياط، إنّما هو التجديف في حقّ الربوبيّة، لترث الأجيال هذه اللعنة في تقنية المعلومة، التي لن تهيمن كمعلومة، ما لم تكن مجبولةً بنصيب كافٍ من أكذوبة!