إنما ككل الحلول وأدوات العلاج تكون هناك أعراض جانبية، يصل بعضها إلى حد الضرر في حالة إساءة الاستخدام. فاختراع البارود لم يكن بالتأكيد هدفه تعزيز دموية الحروب، لكن ذلك ما حدث ويحدث. والعلماء الذين درسوا الذرة واكتشفوا الطاقة الهائلة من انفجارها لم يكن هدفهم تطوير القنابل النووية التي تدمر البشر والحجر بل ربما كان البحث عن مصادرة طاقة تغذي تقدم البشرية مع زيادة احتياجاتها نتيجة كثرة البشر على الكوكب محدود الموارد. وهكذا، هناك أمثلة لا تحصى على الأضرار الجانبية للمبتكرات العلمية والتكنولوجية.

لكن أتصور أن ما تسببته وفرة المعلومات على الإنترنت الآن هو أكثر خطورة من كل تلك التطورات السابقة. ففي النهاية يستطيع الإنسان التحكم في استخدام ماس بق وغيره و"ضبط" خطر الأضرار الجانبية لها. يعينه على ذلك القدر الكافي من المعرفة الحقيقية وإطار قيمي وأخلاقي تطور بمرور الزمن. ذلك فضلا عن أن العلوم بالفعل ما زالت تحكمها قواعد منطقية تحافظ على كون "العلم في خدمة البشرية" وليس الإضرار بها.

وذلك هو الخطر الحقيقي الذي تتعرض له البشرية حاليا نتيجة "الثورة المعلوماتية" المستمرة في التطور والتوسع. فرغم أن الإنترنت ومواقع التواصل وغيرها من تطبيقاتها المختلفة أسهمت في تطوير قطاعات عملية كثيرة، من الخدمات المالية وغيرها، إلا أنها في مجالات أخرى تشكل عامل تدهور رهيب ربما لا نلمس نتائجه الآن بشكل واضح. والأرجح أن البشرية حين تنكسف على ذلك الضرر سيكون قد فات الأوان لعلاج آثاره.

لا أقصد هنا الكذب والتلفيق والتضليل المتعمد في الأخبار والآراء المتعلقة بالسياسة والشؤون العامة، فهناك أدوات لمواجهة ذلك. وفي النهاية تلك أمور متغيرة ومتقلبة لطالما كان فيها "تعبئة" وحشد بالزيف وأنصاف الحقائق يرد عليها آخرون إما بكشفها أو التشكيك فيها. صحيح أن الإنترنت ومواقع التواصل زادت من حجم ذلك في السياسة وغيرها لكثافة المنتجات المضللة وسرعة انتشارها، لكن ذلك كله يتغير بسرعة مع تغير الأوضاع على الأرض. والأمثلة واضحة، ويمكن ببساطة للتحقق الرجوع إلى ما كتبه البعض قبل فترة على الإنترنت ثم عادوا وكتبوا عكسه بعد ذلك. هذا فيما يخص السياسة والشؤون العامة، فما زال لدى الغالبية من الناس القدرة على التمييز بين المنطقي والملفق بعقل نقدي سليم بعض الشيء.

الكارثة الحقيقية هي فيما يمكن وصفه بمحتوى وكأنه "علوم افتراضية" يزداد كثافة على الإنترنت وتطبيقاتها من مواقع تواصل وغيرها. وينتشر ذلك المحتوى بشكل سريع ويؤثر، خاصة في الأجيال الجديدة التي ولدت مع بدء انتشار الإنترنت. تلك الأجيال تثق في "غوغل" أكثر مما تثق في الطبيب الذي يعالجها وتعلم الطلب بالدراسة من الكتب والعمل التجريبي بيديه قبل التخرج. وتستقي الأغلبية معلوماتها من "ويكيبيديا" التي ليست سوى "موسوعة مفتوحة" أي يمكن لأي شخص أن يكتب فيها أي شيء ويبدو كأنه تاريخ ومرجع أكاديمي موثوق. ويصدق كثيرون ذلك السخف والافتعال ونظريات المؤامرة باعتباره "كشفا للمستور" وفرته ثورة الاتصالات وحرمت الأجيال السابقة من معرفته فلا تقدر قيمته.

بتصفح سريع، ليس لمواقع التواصل فقط بل وأيضا لمواقع تبدو "رصينة" على الإنترنت وتظهر بارزة في نتائج محركات البحث يكتشف المرء أن تلك العلوم الافتراضية أصبحت مصيبة حقيقية. فكل شخص يخطر بباله شيء يبثه عبر الإنترنت، وكي يكسبه مصداقية ينسبه إلى العالم أو المفكر هذا أو ذاك. وبالطبع ليس هناك من يدقق إلا القلة والقليلة التي قد تكون قرأت أعمال ذلك المنسوب إليه زورا كلام يبدو علميا وحكيما. ومن يتقن ذلك التضليل يضمن المحتوى بعض أنصاف حقائق (ليست بالضرورة حقائق علمية وإنما حقائق بمعنى أنها منطقية في نسبتها لهذا المصدر أو ذاك).

وبما أن العلوم الإنسانية من أقل العلوم التي تصمد استنتاجاتها العملية كثيرا، فهي الأسهل في التلفيق والتضليل. ليست بالضرورة هناك نيات سيئة في كل الأحوال، لكن النتيجة هي أنه مثل الاختراعات التي أشرنا إليها في البداية تكون الأضرار الجانبية أكبر من الفوائد. هناك شبه "إسهال" في مقولات وكتابات في علم النفس والسلوك والأخلاق والقيم ما أنزل الله به من شيطان، فضلا عن أن حتى العلوم الأكاديمية الحقيقة ذاتها تخضع دوما للتعديل والتطور – فكل ما يتعلق بالإنسان هو نسبي وليس فيه "حقائق" ثابتة.

أما لماذا هذا أخطر من القنبلة النووية والغزو الخارجي من كائنات فضاية (ما دمنا في واقع متخيل افتراضي) فلأنه في النهاية يضرب النواة الأساسية التي تميز البشر: العقل.  البشرية على طريق سريع نحو التسطيح والجهل ما لم تضغط مكابح ذلك الجهل الافتراضي الذي يرتدي مسوح العلم. ولا معنى هنا لحجة أن الإنترنت ومواقع التواصل توفر "حرية المعرفة" التي يريد منتقدو التسطيح جعلها حكرا على فئات معينة. فتلك ليست معرفة ولا علوم وإنما مسار تدهور رهيب يخشى أن يصل بالبشرية إلى مرحلة "اللاعودة" للعلم الحقيقي وأساسيات التقدم المستدام.