ويسري على ذلك إلى حد كبير ما يعنيه الغرب اليوم من محاولة الوقوف على الحياد في الصراع الأميركي الصيني ناهيك عن ما تشكله روسيا من تهديد وجودي للاتحاد الأوروبي وهي الخصم اللدود تاريخيا للولايات المتحدة عبر حرب باردة استمرت نصف قرن.

اليوم تقف الدول الأوروبية محاولة الإمساك بالعصا من المنتصف فلا هي يمكنها إغفال مزايا وجودها في الناتو ولا يمكنها الاستغناء عن مكاسب اقتصادية حظيت بها من خلال علاقتها بالولايات المتحدة، لكن أيضا هناك مكاسب هائلة ومزايا تجارية ضخمة للغاية كسبتها الدول الأوروبية من خلال علاقتها بالصين.

الصين، تلك القوة العظمى التي لا يمكن للغرب إغفالها أو التقليل من منافع العلاقة معها ولكن هناك قضايا لا تقبل القسمة مثل التفوق التكنولوجي وقضايا الدفاع المشترك وأمور أخرى تجد أوروبا نفسها في حيرة من الإعلان صراحة عن رغبتها في أن تكون إلى جوار قوة من القوتين أكثر من الأخرى. ولنستعرض أمثلة على ذلك خلال السنوات الأخيرة:

أولا/ مارس الرئيس ترامب ضغوطا هائلة على أوروبا من أجل عدم فوز الصين بصفقات اتصالات الجيل الخامس وبناء الشبكات الخاصة بذلك في أوروبا ولا يخفى تهديد الرئيس ترامب لبولندا وألمانيا في هذا الشأن حيث اضطر معه أحد السفراء الصينيين إلى الدعوة للانتقام من ألمانيا بعد تراجعها عن قبول صفقة (شبكات الجيل الخامس) وهنا نلحظ مدى الارتباك الذي تشعر به كثير من الدول الأوروبية في محاولة إرضاء طرف من الطرفين.

ثانيا/ لاشك أن مواقف دولة مثل هولندا يستدعي الشفقة فقد كان طلب الرئيس بايدن منها عدم تصدير الموصلات المتطورة في مجال الحوسبة المتقدمة إلى الصين بمثابة حال (الطفل)الذي يأخذ الأمر من (والديه) وقد خضعت هولندا للأمر مطلع هذا العام بمجرد أن المح الرئيس بايدن إلى قانون (القيود المفروضة) وكان حظ هولندا من الصين في هذا الشأن هو التنديد في وسائل الإعلام.

ثالثا/ كان الله في عون أوروبا فقد باتت غير قادرة على الإحاطة بتلك المجالات التي تريد منها الولايات المتحدة الإبتعاد فيها عن الصين فمسالة الأمن القومي الأميركي والمجالات المتفرعة عنه لا تضبطها ضوابط، والمطالبة بإضعاف العلاقات الاقتصادية مع الصين باتت بمثابة الرسالة اليومية التي تكررها الولايات المتحدة على كل دول العالم وفي مقدمتها دول الاتحاد الأوروبي.

رابعا/ ليس من السهولة إغفال إمكانية إظهار الصين ردود فعل عنيفة تجاه أي موقف أوروبي فالاستثمارات معها لا يمكن حتى مجرد التفكير بإحداث ضرر بها، وأسواق العالم باتت تعتمد عليها وطريق الحرير سيجعلها (الحصان الرابح) لعقود مقبلة.

خامسا/ لقد انعكس الشد والجذب بين الولايات المتحدة والصين على موقف الغرب عموما من الأخطبوط الصيني، فالولايات المتحدة تعلن أن خطة الصين العام 2025 تهديد لاقتصادها في الطيران والاتصالات والتكنولوجيا وحتى الصناعات الكهربائية وأن تلك الخطة قامت على سرقة براءات التكنولوجيا الأميركية وبالتالي بات هذا الأمر يزعج أوروبا أكثر فكيف سيكون موقفها لو نجح الاقتصاد الصيني في تجاوز الناتج الأميركي.. هل ستحملها الولايات المتحدة جزءا من المسؤولية؟

سادسا/ لا تحبذ أوروبا ولا تريد ولا تتمنى أن تكون طرفا في حرب عالمية ثالثة - حتى ولو كانت حربا اقتصادية - قد تضطر إليها الولايات المتحدة لحماية نفوذها الاقتصادي في العالم فلا أوروبا كالبرازيل يمكنها أن تنسحب من التعامل بالدولار ولا حسابات المكاسب التجارية مع الصين هي مسألة بسيطة ولا الانخراط في صراعات عسكرية لا ترضى عنها الولايات المتحدة أمر ممكن ولا الضمانات الصينية لأية مواقف سياسية أوروبية خارجة عن المظلة الأميركية قد تدوم طويلا.

في خلاصة، بات الغرب اليوم يحاول الوقوف على مسافة واحدة ما بين الصين والولايات المتحدة لكنه يخشى في أية ساعة سوء الفهم الذي قد يظنه أحد الطرفين فتكون الحسابات عندها خاطئة. وإما سقف التنافس فلا هو قادر على تحجيمه ولا هو قادر على الاستغناء عن واحد من الطرفين، بل بات ينظر إلى نفسه على أنه حتما أقل من تلك القوتين الكبيرتين ولا يمكن أن يكون في مقعد القيادة بل سيبقى لسنوات مقبلة يختار بين نظريتي (الشد) و(الجذب) مع الصين وربما مع الولايات المتحدة بعد أعوام قليلة.