الساحل الإفريقي ابتلي في سنواته الأخيرة بعدة انقلابات شهدتها مالي وبوركينا فاسو، نتيجة ما اعتبر إخفاقا لسياسات السلطة المدنية التي لم تقدم أي حلول سحرية لبلدانها الغارقة في الفساد والبطالة واقتصادات منهارة، مع خطط إصلاح مرتجلة بأيد فاسدة.

جاء انقلاب النيجر ليدق آخر مسمار في نعش التجربة الديمقراطية في آخر بلدان الساحل صمودا أمام الانقلابات، بعد أن اجتاحته عدوى جارتيه مالي وبوركينا فاسو، في نكسة كبرى لسياسات دول "تجمع الساحل والصحراء"، التي بدأت قبل عقد في صياغة اتحادات عسكرية واقتصادية برعاية العالم ومساعدته ومؤازرته لتجاوز أزماتها في التنمية والاستقرار السياسي.

ولم تكن الانقلابات حتما لتأتي بنتائج أفضل من الأنظمة التي تم التخلص منها، ففي مالي وبوركينا فاسو حملت ثورات العسكر رياحا مسمومة دفعت إلى فوضى تستحيل السيطرة عليها، أفسحت المجال واسعا أمام الحركات الجهادية المتطرفة، التي استغلت انسحاب القوات الفرنسية، وقوات الأمم المتحدة من البلدين، لتصبح هي عنوان المشهد، بعد تقدمها ميدانيا واحتلالها لمساحات في البلدين تفوق مساحة فرنسا.

ولم يكن انقلاب النيجر، سوى نذير شؤم آخر، فأكبر مستفيد منه في الوقت الراهن، هو التنظيمات الإرهابية التي كان الجيش النيجري بمساعدة فرنسية يقارعها ويصدها عن حدوده مع جاريه، ولا ريب أن الحدث الحالي سيكون محاكاة وصورة مما حدث في البلدين الجارين في العامين الأخيرين، بسبب وجود خلايا تنظيم داعش أصلا في النيجر، وجهوزيتها للظهور علنا.

أما المشهد العام، والصوت الصاعد في الساحل، والذي تروج له وسائل الإعلام فهو التملل من الوجود الفرنسي، والتبعية الفرنكوفونية التي أصبحت مشجبا لتعليق الفشل الحاصل، فبعد سبات طويل والإفاقة على حقيقة الفشل الذي يطوق المنطقة ومنعها من النهوض عقودا بعد استقلالها، بدأت الأصوات ترتفع محملة فرنسا المسؤولية الكاملة عن هذا الإخفاق، بسبب سيطرتها على مقدرات هذه البلدان، ومنعها من النهوض والقيام بشؤونها واتخاذ قراراتها.

وأضحى لزاما التخلص من هذه الوصاية، وزوالها، وهو ما حدث بعد طرد الجيش الفرنسي، وإعلان اللغة الفرنسية لغة إدارية فقط بدل أن كانت لغة رسمية في مالي، في وقت بدأت هذه البلدان في التوجه نحو روسيا شريكا جديدا بدل فرنسا.

السؤال المحير أمام كل هذه الانقلابات التي لا تنتهي، هو ماذا يريدون حقا؟ لم الإصرار في كل مرة على الانقلاب؟ لم لا يعطي هؤلاء فرصة للسلطة المدنية وصناديق الاقتراع حتى في حال إخفاقها، كما هو الحال في الديمقراطيات الناشئة؟

أولا؛ من الواضح أن الجيوش التي تمتلك السلطة في هذه البلدان لا تتمتع أبدا بالروح التي يمكن أن تحيلها إلى هامش في المشهد، وتجعلها ملتزمة بدورها الحقيقي في الدفاع عن أوطانها، فقد ارتبط دوما وجود جنرالات الجيوش الإفريقية بالفساد والمساومات وتقاسم المنافع، والمشاركة في القرار، وهو ما تعرضت له النيجر أخيرا بعد تنمر الحرس الرئاسي على الرئيس محمد بازوم، بسبب الخشية من قراراته في تهميش أو إقالة رؤساء القيادة، الذين بادروا إلى استباق قراره الذي سيفقدهم امتيازاتهم المادية والمعنوية بانقلاب عليه.

ثانيا؛ ارتبط الإصلاح عبر المؤسسات المدنية عند العسكريين برحلة وتجربة طويلة غير مجدية بالنسبة لهم، لاستعجالهم النتائج ولعدم صبرهم أمام أي إصلاح يقتضي رحلة طويلة، أو أي نوع من الممارسة التي يمكنها تجاهلهم وعدم وضعهم في الحسبان والطليعة.

وأخيرا؛ لا بد من التوقف أمام الحالة الروسية الجاثمة على المشهد الإفريقي، بعد خطابات بوتين الأخيرة التي قدم فيها روسيا منقذا للقارة التي ترى أن الغرب لم يقم بواجباته تجاهها، بعد أن استغلها عقودا طويلة منذ الاستعمار، بينما تركها رهينة تخلف لا تستطيع النهوض منه، لتقرر تغيير ولائها نحو الشرق عل شمسه تبزغ عليها، بعد أن غربت عنها في الغرب، ويبدو أن الخطاب الروسي، والحملة الإعلامية المنسقة لبوتين في إفريقيا أتت ثمارها، لتدفع الأنظمة والكيانات التابعة لفرنسا لتغيير ولائها لتنضم جميعا تحت القبة الروسية، ليس حبا في روسيا ولكن سخطا على شركاء الأمس.