السويد والدنمارك أخطأتا في اعتبار هذا العمل الطائش المثير للكراهية والعنف، تعبيرا عن الرأي، لأنه ليس كذلك. التعبيرُ عن الرأي له مجالاتُه ومساحاتُه الواسعة، في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، ومراكزِ الأبحاث، والمعاهد والجامعات، ودورِ النشر ومنظمات المجتمع المدني.

احتقارُ الأديان ليس جزءا من حرية التعبير، لأن الأديانَ مقدسةٌ عند المؤمنين بها، ولأن الاستهانةَ الفاقعة بعقائدِ الآخرين عملٌ غيرُ أخلاقي، ابتداءً، وهو يزعزعُ الأمنَ والنظامَ في المجتمعات البشرية، ويقوِّضُ الوئامَ بين الشعوب، ويسيءُ إلى علاقات الدول مع بعضها البعض، إضافةً إلى أنه لا يخدمُ أحدا، بل يمنحُ المتطرفين، في كلا الجانبين، فرصةً نادرة لإثارةِ البلبلةِ والعنفِ والكراهية بين الناس، وإرباكِ الحياةِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والسياسية. وكل المجتمعات فيها مؤمنون وغير مؤمنين، لكنهم متعايشون ويحترمون بعضهم بعضا في حدود القانون.

الدولُ الإسلامية جميعُها تصرفت بحكمة تجاهَ حرقِ القرآن، الذي قام به فردٌ كان إلى عهدٍ قريب، عضوا في ميليشيا مسلحة في العراق، وهو شخصٌ ربما مدفوعٌ من جهاتٍ متطرفة، بهدف إثارة الرأي العام ودفعِه باتجاهاتٍ تخدمها، أو أنه يعاني من أزمةٍ نفسيةٍ حادة.

العراقُ هو البلد الوحيدُ بين البلدان ذات الغالبية الإسلامية الذي تصرف خارجَ المألوف، وخارجَ حدودِ القانون، وكأن الأمرَ موجهٌ ضده وحدَه، دون باقي الدول الإسلامية.

المتشدقون بالدين في العراق، الذين كانوا أول من خالف مبادئَ الدين وتعاليمَه، سواءٌ بممارسة القتلِ والخطفِ والقمع، أو بسرقةِ المالِ العامِّ والخاص، اعتبروا القضيةَ فرصةً نادرةً لهم كي يُجَمِّلوا صورتَهم المهترئة، ويظهِروا أنفسَهم أمام البسطاء بأنهم حماةُ الدين، وأنهم أقوياء، ويمكنهم أن يتَحَدّوا دولةً غربيةً "معاديةً للإسلام" كالسويد، عبر الهجوم على سفارتِها واستباحتِها وإحراقِها، الأمر الذي دفع الدبلوماسيين السويديين إلى مغادرة بغداد إلى أربيل، وهذه العملية بحدِّ ذاتِها، إدانةٌ لحكومةِ بغداد، وإشادةٌ بحكومةِ الإقليم، التي صارت ملاذا لكل الهاربين من جحيم المسلحين المتشدقين بالدين.

حكومةُ السويد وشعبُها، لا علاقةَ لهما بحرقِ القرآن، وقد كانت السويد بين أكثر بلدانِ العالم ترحيبا باللاجئين المسلمين الهاربين من جحيم الحروب والجماعات الدينية المتطرفة، واستقبالا لهم، فمنحتهم الإقامة والجنسية والمساعدات المالية والسكن اللائق والعلاج اللازم، وكل هذا كان وفقا للقانون السويدي، الذي يمنح المواطنين، والسكانَ عموما، حرياتٍ واسعةً، تمتد لتشمل الاحتجاجات بكل أشكالها، بما فيها حرقُ الكتب المقدسة، للأسف.

توقيتُ حرقِ القرآن كان مثاليا للجماعات المتشدقة بالدين في العراق. فهناك انتخاباتٌ محلية على الأبواب، وهذه الجماعات صارت منبوذةً شعبيا، ومن هنا يأتي تصميمُها على استخدامِ الدين لكسب التأييدِ الشعبي. وهذه ليست المرةَ الأولى التي تستَخدِم فيها هذه الجماعات قضايا دينيةً لأغراضٍ انتخابية، فهذا هو دَيْدَنُها منذ بروزها على الساحة العراقية عام 2003.

ويصادفُ هذا الفعل الشنيع أيضا مع حلول شهرِ محرمٍ الحرام، الذي تكثُر فيه النشاطاتُ الدينية وممارسةُ الطقوس في العراق، وهي مناسبةٌ تستغلُّها هذه الجماعات في العادة، لكسب القبول والتأييد الشعبيين، فتقيمُ الولائم وتنظِّمُ المواكب والمسيرات والتجمعات، ويخرج قادتُها مرتدين السواد، وكأنهم مساكين لا هَمَّ لهم سوى تقوى الله سبحانه وتعالى، وخدمةِ عبادِه الصالحين.

لذلك رأت هذه الجماعات أن هناك فرصةً لتحسين سمعتِها ودفعِ الناسِ للتصويت لها في الانتخابات المقبلة، كي تواصل ممارساتها المعتادة خلال السنوات العشرين المنصرمة، من سرقة المال العام، وقمع الرأي الآخر، والاستيلاء على المواقع المهمة في الدولة، وقتل الناشطين والمحتجين، من ذوي الآراء الناقدة، أو على الأقل خطفهم وتعذيبهم وإسكاتهم، وهذا أضعف الإيمان!

ومع كل الجهود المميزة التي يبذلها رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، في التركيز على الإعمار والبناء ومكافحة الفساد وإصلاح الأوضاع المتردية في البلد، إلا أن حكومته تبدو ضعيفة أمام قادة الميليشيات والسياسيين الانتهازيين، الذين لديهم تاريخ طويل وحافل في تأجيج الفتن وإثارة الاقتتال بين فئات المجتمع العراقي وشرائحه المختلفة، والذين سقط ثلث العراق في أيدي داعش الإرهابي بسبب خطابهم الطائفي الفاقع.

وإلا ما معنى أن تتصرف الحكومة العراقية بالطريقة التي فعلتها مع السويد في قضية إسلامية عامة، تهم كل الدول الإسلامية، والمسلمين عموما في دول العالم الأخرى؟ هل العراق الوحيد الذي يعنيه هذا الأمر؟ هناك 56 دولة ذات غالبية إسلامية في العالم، يقارب عدد سكانها الملياريْ إنسان، وهي منضوية في منظمة المؤتمر الإسلامي، ويمكنها أن تناقش هذا الأمر وتتخذ قراراً بشأنِه، إن اعتبرته خطيرا أو مطلوبا، لكنها لم تفعل لأن القضية فردية ولا تستحق الاهتمام.

هل العراق أهم من المملكة العربية السعودية، مهبط الوحي وموضع نزول القرآن، التي تضم أقدس المقدسات الإسلامية؟ أم أنه أهم من مصر ذات الـ 100مليون مسلم، وتضم أهم وأشهر جامعة إسلامية في العالم؟ أم أهم من إندونيسيا ذات الـ240 مليون مسلم؟ أم أهم من باكستان ذات الـ230 مليون مسلم؟ أم بنغلادش ذات الـ 170 مليون مسلم؟

العراق دولة متعددة الأديان والمذاهب والقوميات والتوجهات السياسية والاجتماعية، وكان يجب أن يكون أكثرَ دولة في العالم الإسلامي تعقلا وتسامحا ومراعاةً للأعراف والقوانين الدولية، وأكثرَ حذراً من اتخاذِ قراراتٍ ضد دول أخرى، خصوصا في القضايا الفكرية، التي يجب أن تُناقَش بهدوء، وعبر القنوات المناسِبة، وليس عبر مهاجمة السفارات وحرقها، أو قطع العلاقات الدبلوماسية.

والعراق دولة مدَمَّرة، وتحتاج إلى تعاون الدول الأخرى معها، خصوصا الصناعية والغنية منها، لمساعدتها في الإعمار والبناء والتطوير وتحسين الخدمات لشعبها، الذي يعاني من الفقر بنسبة (31.7%) حسب برنامج الغذاء العالمي، والبطالة بنسبة (23%) حسب تقديرات البنك الدولي، وتلوث البيئة، إذ ينبعث من العراق 9% من مجموع انبعاثات غاز الميثان في الكرة الأرضية، حسب وكالة الطاقة الدولية، بسبب احتراق الغاز المصاحب للنفط.

ويعتبر الميثان من أخطر الغازات على الإطلاق، إذ يساهم باحترار الأرض أكثر من ثاني أوكسيد الكربون بثمانين ضعفا. أما جودة الخدمات الصحية فتأتي في المرتبة (115) عالميا، وجودة التعليم في المرتبة (121)، والتطور في المرتبة (140) حسب مؤشر (ليغاتوم) الدولي.

والعراق دولة تعاني من مشاكل عديدة أهمُّها أن شعبَها غير منسجم مع الطبقة السياسية الحاكمة، بسبب فسادها وتجاوزها على الحريات العامة والخاصة، وانتشار أعمال القتل والخطف التي ترتكبها الجماعات المسلحة المنفلتة، المرتبطة بالطبقة السياسية والمتعاونة معها، والتمييز بين أفراد المجتمع حسب الانتماء السياسي أو العرقي أو الديني أو الطائفي.

الإسلام أكثر الأديان انتشارا في العالم، وقد انتشر عبر الإقناع والاقتناع، ولا يحتاج إلى جماعات سياسية مفلسة وفاقدة للشرعية الأخلاقية والشعبية، أو طبقة سياسية أوغلت في ممارسة أساليب الخداع والكذب والدجل، بشكل غير مسبوق في التاريخ وبطرق مبتكرة، يجترحها متمرسون في خداع الرأي العام.

إن الجماعات التي ارتكبت الجرائم والسرقات والتجاوزات بحق العراقيين، منذ أن ساقها سوء طالعهم إلى السلطة، وجعلت ثلث السكان دون خط الفقر، حسب المؤشرات الدولية، ودفعت الملايين من سكان أرض السواد إلى الهجرة، باحثين عن مأوى آمن في بلاد الله الواسعة، هي آخر من يتحدث باسم الدين، بل إن محاولاتها البائسة هذه، تثير السخرية بين العراقيين والشعوب الأخرى التي تعرفت على ممارساتها وأساليبها عن قرب.
كان على هذه الجماعات، إن كانت مؤمنة حقا، أن تتمثل الحديث الشريف القائل (وإذا ابتُليتم فاستتروا)، وتصمت ولا تتحدث بما يثير استياء العراقيين، ويزيدهم غضبا منها.

العراقيون يحتاجون إلى من يقودهم إلى الاستقرار والهدوء والتنمية الاقتصادية والتطور والانسجام مع العالم المعاصر، وليس إلى من يغامر بأمنهم واقتصادهم وسبل عيشهم ومستقبلهم، ويسعى لجعل بلدهم، وهو مهد الحضارات والمدارس الفكرية والدينية، منبوذاً وفقيرا.

السويد دولة صناعية غربية ثرية، وهي عضو في الاتحاد الأوروبي ذي الـ27 عضوا، وعضو في حلف الناتو، ذي الـ 32 عضوا، والإيغال في التجاوز عليها والاعتداء على سفارتها من قبل دولة ضعيفة مفككة كالعراق، يثير السخرية حقا. والأمر نفسه ينطبق على الدنمارك. الاعتداء على السفارات لا تمارسه سوى الجماعات الإرهابية والدول الراعية لها، فهل هذا هو الموقع الذي يريده العراق لنفسه بين الدول؟

ماذا لو تضامنت دول الاتحاد الأوروبي مع السويد؟ أو دول الناتو؟ وماذا لو أن طائشا أو معتوها آخر أقدم على عمل مماثل في أميركا أو فرنسا أو بريطانيا أو الصين أو روسيا أو اليابان؟ هل سيخرج العراق من مهده ويتصارع معها أيضا؟

هل العراق بحاجة إلى هذه المواجهة؟ أم أنه يحتاج إلى التفاهم مع دول العالم وإقناعها بأن تتعاون معه كي ينمو ويتطور ويصون سيادته وكرامة شعبه؟ وما الذي يمكن أن تحققه مثل هذه الأفعال الصبيانية غير تشويه صورة العراق وشعبه أمام العالم، وإضعافه أكثر مما هو عليه الآن، وزعزعة الثقة بنظامه السياسي؟

العلاقات الدولية تبنى وتتطور بالتفاهم والتعاون وتوسيع المشتركات، وليس باستعراض العضلات الفارغ من أي محتوى، وانتهاز الفرص لإثارة القلاقل وافتعال الأزمات. الدول الضعيفة تحتاج أكثر من غيرها إلى التقيد بالقانون الدولي واتباع الأعراف الدبلوماسية، وسلوك القنوات السلمية للتفاهم مع الدول الأخرى، أما التظاهر بالقوة وانتهاك القوانين الدولية فإن عواقبهما وخيمة، والنشوة المتولدة منهما قصيرة الأمد.