لم يساهم سوء الفهم بين دول "الأطلسي" والاتحاد الأوروبي من جهة وإدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من جهة أخرى في عزف المنظومة الغربية على نفس الوتر في مقاربة العلاقة مع بكين. بقيت كافة الدول الغربية، الأوروبية على الأخص، تنسج علاقات متقدمة، اقتصادية أساساً، مع الصين، ولم تكن تلك الدول مهجوسة بالخطر الصيني وفق النسخة الصادرة عن واشنطن.

واللافت في الرؤية السابقة لبريطانيا للعلاقة مع الصين تنامي التشابك الاقتصادي بين لندن وبكين وذهاب حكومة لندن المحافظة في عهد بوريس جونسون إلى إبرام عقد استراتيجي مع شركة هواوي الصينية لإنشاء شبكة الجيل الخامس للاتصالات في بريطانيا على نحو يتناقض تماما مع التقييم السلبي الأميركي للشبكة الصينية واعتبارها خطرا داهما على أمن المنظومة الغربية برمتها.

وقد اضطر ترامب للمجيء إلى لندن في يونيو 2019 وممارسة ضغوط شخصية مباشرة على "الصديق بوريس" أدت لاحقاً إلى تخلي بريطانيا في يوليو 2020 عن صفقتها الصينية الملتبسة.

لاحقا تمكّن الرئيس الأميركي جو بايدن من إصلاح ذات البين مع شركاء الولايات المتحدة الغربيين. كان عليه أن يتوجه في صيف عام 2020 إلى أوروبا لعقد اجتماعات منفصلة مع حلف الناتو ومجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي أعادت ترميم العلاقات المتصدّعة وترتيب رؤى مشتركة في قضايا متعددة بما في ذلك الموقف من الصين.

حينها تبدّلت لهجة الأوروبيين والأطلسيين الذين اكتشفوا فجأة أن الصين تمثّل "تحديا" للأمن الاستراتيجي الغربي. حتى أن "الناتو" وسّع من صلاحياته داخل وحول المحيط وراح يمدد صلاحياته العسكرية صوب المحيطين الهندي والهادي.

لم تكن الرؤى الأميركية وحدها هي الضاغط لإحداث التحوّل في الموقف الغربي عامة والبريطاني خاصة من الصين. ساهمت جائحة كوفيد-19 في فتح أعين دول المعمورة على مستوى الارتهان الخطير للصناعة الصينية وخطيئة نقل المصانع الغربية إلى الصين. بدا أن مزاج الصين يحدد توفّر السلع، لا سيما تلك الاستراتيجية في الدواء والغذاء والتكنولوجيا، وأن سلاسل التوريد في العالم مرتهنة تماما لإيقاع التدفق الإنتاجي الوارد من مصانع الصين.

انتقلت لندن من طور إلى طور في قراءة علاقاتها مع الصين. والأرجح أن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي حفّز حكومات البلد أن تكون أكثر يقظة في قراءة العلاقات الدولية وتداعي ذلك على مصالح بريطانيا وحدها بغضّ النظر عن موقف الأوروبيين عامة من الصين. بدا أن لغة رئيس الحكومة الحالية ريشي سوناك هي أكثر صقورية وقسوة من أسلافه لجهة اعتبار الصين تحديا جديا لأمن المملكة المتحدة.

فجأة تستيقظ لندن على أنشطة معادية تقوم بها الصين في وضد بريطانيا. خرجت تقارير من جهازي المخابرات البريطانيين الشهيرين MI5 وMI6 تلقي الضوء على أخطار الصين وتحذّر من شبكة صينية تعمل في البلاد. وكان لافتاً قرار لندن طرد 50 طالبا صينيا كانوا يدرسون في كبريات الجامعات البريطانية اتهموا بأنشطة تجسس على المختبرات العالية الأهمية العاملة في هذه الجامعات.

تحوّل "ملف الصين" إلى هاجس عابر لكل أحزاب بريطانيا. حتى أن لجنة الاستخبارات في البرلمان البريطاني التي تعمل داخلها كل أحزاب البلد دقت ناقوس إنذار في تقريرها الأخير واعتبرت أن الإجراءات التي اتخذتها حكومات لندن ما زالت غير كافية ومتخلّفة عن مستوى ردّ "الخطر" الصيني عن مصالح البلد الاقتصادية والأمنية والعسكرية. ولئن يكشف التقرير عما تخطط له الصين وما أنجزته على حساب بريطانيا، فإن النصّ البرلماني سيكون عاملاً مفصليا في تغيير دفة المقاربة العامة للتعامل مع الصين.

اعتبرت لجنة الاستخبارات في تقريرها في 13 يوليو الجاري أن الاستخبارات الصينية تستهدف المملكة المتحدة ومصالحها بكثافة وقوة، وأن الصين استفادت من تركيز لندن على تعزيز العلاقات الاقتصادية من أجل اختراق أمن المملكة. واعتبر التقرير أن استراتيجية الحكومة البريطانية تجاه الصين غير كافية وأن الصين نجحت في اختراق كل قطاع من قطاعات الاقتصاد البريطاني. وفي ما كشفه التقرير ما أشعل جدلا أمنيا وسياسيا من المهم متابعته.

لم تنتظر حكومة سوناك تقرير لجنة الاستخبارات الصادر منذ أيام. كانت أعلنت في مايو الماضي عن سياسة بريطانية جديدة حيال الصين. ومع ذلك لم ترق الخطة إلى مستوى الحرب الباردة. حتى أن وزير الخارجية جيمس كليفرلي رفض مطالب دخول بلاده في صراع مع الصين معتبرا أن تلك المطالب "خيانة لمصالحنا الوطنية وعدم فهم متعمد للعالم الحديث". ولافت ما قاله الوزير من أنه من الصعب وصف الصين بكلمة واحدة "سواء كعدو أو تهديد أو شريك".

مقابل هذا التعقّد في وصف الصين وطبيعة العلاقة معها، يسعى سوناك للإمساك بالعصا من الوسط. والواضح أن تصاعد مزاج لندن تجاه بكين لن يصل، في الأجل القريب على الأقل، إلى مستوى المزاج الأميركي بشأن الصين.

ما زالت لندن، كما أوروبا، توجّه رسائل تحفّظ وتحذير من الخطر الصيني واعتباره، حتى الآن، تحدياً من دون اعتباره عامل عداوة وصدام. وأيا كانت اجتهادات لندن الأبجدية، فإن بريطانيا، من خلال تحالف AUKUS مع الولايات المتحدة واستراليا الذي يزوّد كانبيرا بغواصات نووية، هي جزء من جهد عسكري غربي ينتشر في منطقة الاندو-باسيفيك التي تعتبرها الصين مجالها الاستراتيجي الأول.

تحوّلت بريطانيا في مقاربة علاقاتها مع الصين. قد يتّسق هذا التحوّل مع شراكة بريطانية أميركية على المستوى العسكري في المناطق المحيطة بالصين في آسيا.

لكن تقرير لجنة الاستخبارات يتزامن مع كشف برلين التي تمتلك علاقات متقدمة مع بكين عن استراتيجية ألمانية جديدة متشددة حيال الصين. غرّد المستشار الألماني أولاف شولتز: "هدفنا ليس الانفصال عن (الصين)، لكننا نريد خفض الاعتماد الاقتصادي في المستقبل". وعرض الاستراتيجية الجديدة، قائلا إنها تأتي ردا على "الصين التي تغيرت وتبدي تشددا متزايدا".

الأمر يفصح عن منحى في بريطانيا وألمانيا يتناقض تماما مع موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي دعا، بعد زيارة بكين في أبريل الماضي، أن لا تكون أوروبا تابعا للولايات المتحدة في العلاقة مع الصين.