لا نقصد، بهذه الملاحظة، أنّها حروب صُنِعَت بقرارٍ من إحدى تلك الدّول، فحسب، ولا أنّ هندستَها الاستراتيجيّة تعود إليها أكثر ممّا تعود إلى من يخوض غمارها، فحسب، ولا أنّها شُنّت بدعمٍ عسكريّ وماليّ وسياسيّ من تلك الدّول الكبرى، فحسب، وإنّما نقصد بها هذا كلّه، بل نضيف إلى عناصر تعريفها عنصراً آخر؛ هو أنّ جيوش البلدان التي تخوض تلك الحروب تبدو، في الصّورة، وكأنّها استُعيرت من الدّول الكبرى كي تخوض هاتيك الحروب نيابةً عنها! وهذا يفترض، ابتداءً، أنّ دول تلك الجيوش الصّغرى مشدودةٌ بروابط التّبعيّة إلى آمِرَتها (الدّول الكبرى)، وواقعةٌ في مناطق نفوذها، وأنّها لا تملك قرارها السّياسيّ السّياديّ كي تختار رفْض السُّخْرة العسكريّة المعروض عليها أداؤُها.

قـد لا تكون هذه العلاقة الأَمْرِيّة وحدُها العلاقةَ التي تفرض على مأمورٍ أن يمتثـل لأمْرِ آمـرٍ فيدخل معترَك حربٍ نيابةً عن آمِـرِه، أو دفاعاً عن مصلحةٍ لذلك الآمِر ضدّ عدوٍّ آخر كبيرٍ: له، أيضاً، مأمورُه الذي يحمي في الإقليم نفوذَه، بل قد تسلك السّياسةُ (سياسات الدّول الكبرى) مسلكاً آخر في مسعًى إلى تحقيق غرضها: دفْعُ «حليفها» إلى الحرب من غير ضغطٍ مباشِر، ولا أمْـرٍ مباشر.

ومن ذلك، مثلاً، دقُّ إسفينٍ بينه والغريمِ المطلوبِ خوضُ الحرب ضدّه (بحسبانه، أيضاً، وكيلاً محليّاً لدولة كبرى أخرى في حالة عداء)، وافتعالُ الأزمات التي تستفحل إلى الدّرجة التي لا يعود معها من إمكانٍ لتسويّتها سلميّـاً بين دولتين صغيرتين، فتكون الحرب - حينها- أفـقاً لا مهرب لواحدةٍ منهما من ارتياده. وقد تكون موارد تلك الأزمات موفورة سلفاً، أي وقعت تهيئةُ مادّتها الأوليّة منذ الحقبة الاستعماريّة (مشكلات الحدود التي خلقها التّقسيم الاستعماريّ مثلاً)، وحينها لا يبقى سوى تهيئة شروط انفجارها حين تقضي بذلك المصلحة: مصلحةُ الدّولة المستعمِرة أو وريثُها في النّفوذ!

في هذه الحال الخالية من الضّغط - كما في الحال التي قبلها - لا تجد البلدان الصّغرى المتحاربة نفسَها في غَنَاءٍ عن الدّول الكبرى، حتّى وإنْ وَقَـرَ عندها أنّها هي مَـن ساقَـتْها إلى الحرب.

تظلّ علاقاتُ الاستتباع هي عينُها التي تفرض على الصّغير أحكامَ الخضوع؛ إذِ الأخيرُ مدرِكٌ، في النّهاية، أنّه في مسيس الحاجة إلى الدّولة الكبرى لِتَرْفِـدَهُ بالدّعم العسكريّ والماديّ والسّياسيّ لكي ينتصر في الحرب، أو ليمنع عن نفسه الهزيمة إنْ كان هو مَن وقعتْ عليه ابتداءً.

هكذا تستطيع الدّول الكبرى تبييض سياساتها (سياسات الإيقاع بين الشّعوب وإشعال الحروب) من طريق المساعدات التي تقدّمها لها أثناء خوضها المعارك نيابةً عنها.

بل هي تستطيع أن ترفع الاشتباه عن ضلوعها في إيقاد تلك الحروب والإيحاء بأنّها هبّت لنصرة المعتَدَى عليه، أو لفرض العودة إلى الوضع «الطّبيعيّ» الذي يسلّم به القانون الدّوليّ.

أُطْلِقَ على هذا الضّرب من الحروب اسم الحروب بالوكالة؛ والتّسميّة صحيحة، بل دقيقة؛ لأنّها تصرّح بوجود طرفٍ أصيـلٍ وراءها لا يبدو في الواجهة أو على مسرح الأحداث، لكنّه يوجّهها ويدير فصولها.

أمّا المشارِك الميدانيّ فيها فهو محضُ وكيلٍ يخوض ما أُوكِلَ إليه خوضُه نيابةً عن الأصيل، على الرّغم من أنّه هو مَن يدفع، حصراً، أثمانَها المَهُولة من أرواح جنوده وشعبه، ومن الخسائر الماديّة في جهازه العسكريّ، ومن دمار بناهُ التّحتـيّة ومُدُنه وقراهُ، ومن خرابٍ في اقتصاده... إلخ! ومن النّافل القول إنّ هذه الخسائر البشريّة والماديّة الكبيرة هي، بالذّات، ما أنجب فكرة هذا النّموذج من الحروب بالوكالة؛ حيث ينوب مغلوبٌ على أمْـرِه في حمْلِ الأعباء عمّن يَأْبى لنفسه أن يدفعها أصالةً! إنّه ثمن التّبعيّة الفظيع.

ربّ قائل إنّ مثل هذه الحروب كان يقع في حقبة الاستقطاب الدّوليّ بين الغرب والاتّحاد السّوڤييتيّ ومعسكر حلفائه في شرق أوروبا، أَيَّـان كانت هناك حربٌ باردة، وكانت وظيفةُ الحروب الصّغيرة تنفيسَها (أي الحرب الباردة) وتنفيسَ احتقان العظميَيْن لئلاّ تنقلب إلى حرب ساخنة (نوويّة)، وهو ما قد لا ينطبق على حروب اليوم.

هذا الاستدراك غيرُ ذي موضوع لأنّ الحرب الباردة لم تتوقّف يوماً منذ انهيار الاتّحاد السّوڤييتيّ والمعسكر «الاشتراكيّ»؛ إذْ بقيت روسيا والصّين عدوّيْن، عند الغرب، حتّى يوم النّاس هذا، كما بقي الطّلب الدّوليّ شديداً على تلك الحروب الصّغيرة حتّى حين أُجْبِرت دولةٌ كبرى، مثل الولايات المتّحدة الأمريكيّة، على أن تخوض حروبها مباشرةً في العراق والصّومال وصربيا وأفغانستان. نعم، لا نشكّ في أنّ هناك حروباً أصيلة - لا بالوكالة - تخوضها بلدانٌ لتحرير أراضٍ محتلّة لها، ولكنّ هذه ليست القاعدة في الحروب الصّغيرة التي ما زالت لم تتوقّف حتّى اليوم.

مَن لديه شكّ يكفيه أن يشاهد فصول حرب أوكرانيا أو، قُـل، الحرب التي تخوضُها أوكرانيا نيابةً عن الغرب والأطلسيّ ليعرف أنّ نظام الوكالة ما زال ساريَ المفعول!