ليس من التجني القول إن قدرا من الحيرة يقترن بشخصية نابليون، القائد العسكري الذى ترك بصمته الواضحة في تاريخ الحروب، لاسيما في أوروبا، هذا القائد الفرنسي الذى تعرض في بداية مشواره العسكري لعدم الاكتراث من المحيطين به في الجيش، لكنه بعد انتصارات باهرة صار بطلا قوميا شق طريقه إلى سدة الحكم.
حياة هذا القائد الفرنسي مليئة بالمفارقات، أولها أنه ولد في جزيرة كورسيكا بعد عام فقط من انتقال الجزيرة من جمهورية جنوة إلى المملكة الفرنسية، وظل طيلة حياته ينطق الفرنسية بلكنة إيطالية، أوفدته أسرته إلى باريس لتلقى العلم، وألحق قبل قيام الثورة الفرنسية بعشرة أعوام بمدرسة بريان العسكرية لإعداد البحارة، حيث عانى من تهكم زملاؤه بسبب لكنته.
قضى على طموحه أن يصبح بحارا نتيجة ضمه إلى مدرسة سان سير العسكرية الشهيرة، ما أجهض طموحه بأن يصبح ربانا، لذلك راودته فكرة الالتحاق بالبحرية البريطانية، لأن خياله كان متعلق بالأساطيل التي تبخر عباب البحار، لكنه في النهاية تخرج من المدرسة العسكرية كضابط في المدفعية الملكية الفرنسية، لم يكن يدرى أن ما تم ضد آماله بامتهان البحر أمر سوف يغير حياته رأسا على عقب، بل ويغير تاريخ فرنسا ذاتها.
في سنوات الثورة الفرنسية الأولى استقر في مسقط رأسه بجزيرة كورسيكا، مضطربا في حيرة من إمره بين أنصار التيارات السياسية الثلاث المتنافسة في الجزيرة وهم الكورسيكيين الوطنيين، والثوريين، والملكيين، وحسم إمره في النهاية بالانضمام إلى القوة السياسية الأكثر نفوذا وقتها؛ المتمثلة في نادي اليعاقبة، ومن خلاله كانت ترقيته الأولى إلى رتبة النقيب وهو في عمر الثالثة والعشرين.
نابليون هذا الضابط ذو الجذور الإيطالية الذي لم يقتنع به جنوده في بواكيره لقصر قامته سوف ينصب نفسه امبراطورا على فرنسا، بعد أن أنجز في معاركه نتائج لم يحققها أي قائد عسكري في تاريخ فرنسا، لفت النظر إليه عندما نجح في نصب مدافعه على تل يطل على طولون وطرد البريطانيين المحتلين منها، ويومها استمر في المعركة رغم إصابته ليصبح بعدها بطلا قوميا، كان في رتبة المقدم وقت معركة طولون، ورقى بعد انتصاره فيها إلى رتبة العميد وهو في الرابعة والعشرين، وياله من مجد مبكر.
المفارقات ستظل تطارده، إذ سيعتقل بعد إعدام روبسبير، لكنه سيعاد للخدمة العسكرية، ويكلف بمهام يراها تحط من قدره ومكانته العسكرية، وهو ما سيرفضه مما كلفه العزل من رتبه العميد، وكبده سوء الأحوال المالية، على أن الحظ ابتسم له مرة أخرى عندما كلف من قبل حكومة الإدارة بحمايتها من عصيان الملكيين، وهو ما نجح فيه باستخدام المدفعية بامتياز، ما أعاد له الاعتبار.
بعد زواجه بيومين فقط غادر عش الزوجية في باريس، حينما نادته محبوبته الأولى والأخيرة الحرب، كي يقود الحملة على شمال إيطاليا لطرد النمساويين منها، حتى لا يشكلوا خطر على فرنسا من حدودها الجنوبية، ونجح في هذه المهمة نجاحا منقطع النظير، مما جعله يتجاسر ويغزو النمسا نفسها، ويضطرها لتوقيع معاهدة سلام مع فرنسا، ليصبح القائد الذي يحتل مكانة عظيمة ليس بين جنوده فقط لكن بين جموع الفرنسيين.
عندما نجح الملكيون في تحقيق أغلبية في البرلمان سعوا لتقليص صلاحيته، فأرسل إليهم وهو خارج فرنسا أثناء حملاته أحد جنرالاته الذي قام بإقصائهم والتخلص، منهم ليبدأ مرحلة يضاف فيها إلى نجاحاته العسكرية تأثيرا طاغيا في الحياة السياسية، لاسيما بعد أن عاد من النمسا بمعاهدة "كمبوفورميو" التي اقتصت فيها فرنسا إراض من النمسا، وعندما عاد إلى باريس في نهاية عام 1797 استقبل استقبال الفاتحين، واحتل مرتبة شعبية عظيمة مكنته من الاندفاع نحو طموحاته.
قاد حملة إلى مصر كي يقطع طريق بريطانيا إلى الهند بهدف القضاء على مصالحها التجارية هناك، لكنه سرعان ما عاد إلى باريس بعد أن أحدقت التهديدات بفرنسا من المحيطين بها، وتفاقم المخاطر في الداخل نتيجة الوهن الذي أصاب حكومة الإدارة المنقسمة والمفلسة، استغلالا لهذه الظروف استطاع نابليون بدهاء أن ينتقل من رجل فرنسا القوي إلى رجلها الأقوى.
تعددت معاركه العسكرية والسياسية بعد أن أصبح متمكنا من فرنسا، وصارت طموحاته جامحة بلا سقف، فاستولى على أوروبا كاملة بعد أن أعلن نفسه إمبراطورا على فرنسا، وزادت شراهته فذهب إلى غزو روسيا، ليفنى أغلب جيشه في مقبرة جليدها الدائمة، من هنا كانت الحملة ضد روسيا بداية النهاية بالنسبة لنابليون، عندما تشجع أعداؤه وقاموا بتأسيس ما عرف بالتحالف السادس؛ بين دول أوروبا وروسيا ضده، ، فيلقى جيشه المنهك الهزيمة منهم، ويجرد من مناصبه العسكرية والسياسية، ويتخلى عن العرش، وينفى إلى جزيرة "ألبا" الصغيرة في البحر الأبيض المتوسط.
تسلل نابليون من منفاه مستغلا تفاقم الخلافات بين الأوربيين، مستبقا خطة بريطانيا لنفيه إلى جزيرة أبعد في المحيط الأطلنطي، وما أن هبط البر الفرنسي أرسل الملك لويس الثامن عشر فوجا ليعتقله، لكن نابليون في مفارقة جديدة من سلسلة مفارقاته، تصرف بدهاء وجسارة عبقريان يحسد عليهما، إذ ترجل منفردا عن حصانه، وسار على قدميه مقتربا من جنوده بثقة وثبات ورباطة جأش، وصاح فيهم: "ها أنا ذا، إن شئتم فلتقتلوا إمبراطوركم"، ومن عجب أن أثره كان مازال ساريا في جنوده، فهتفوا "عاش الإمبراطور"، ليقودهم عائدا إلى سدة الحكم في باريس مرة أخرى.
في باريس تربع على عرش فرنسا من جديد، ليبدأ صفحته الأخيرة في ملحمة الحرب والسياسة.