تبدو فرنسا عاجزة منذ عقود عن مقاربة إشكالية "الضواحي" وتدبير علاقة الدولة بالمجتمع المهاجر أو المنحدر من أصول مهاجرة. ومن يراقب هذه المسائل يلاحظ حالة التوتر في علاقة سكان هذه الأحياء برجال الشرطة بما بعبّر عن أزمة ثقة بين الدولة وشريحة وازنة من المجتمع في فرنسا.
وما تشهده فرنسا هذه الأيام من أعمال شغب واسعة النطاق ليس جديدا في تاريخ البلد، لا سيما في العقود الأخيرة وخصوصا تلك التي استمرت 3 أسابيع عام 2005 في عهد الرئيس الراحل جاك شيراك حين كان الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي يشغل منصب وزير الداخلية. وأن ينتشر الغضب من ضاحية نانتير غرب باريس صوب ضواح ومدن فرنسية أخرى قريبة وبعيدة عن مركز الحدث، فذلك يكشف مقدار حجم النار الخامد تحت الرماد والذي ينتظر مناسبة للاشتعال.
انفجر صاعق هذه الاحتجاجات الثلاثاء 27 يونيو الماضي بعد احتكاك دراماتيكي بين رجلي شرطة وإحدى السيارات في "نانتير" تطوّر حين انطلق السائق (17 عاما) بسيارته متفلتاً ما قاد إلى إطلاق أحد رجال الشرطة النار على السيارة الهاربة فأردى الفتى "نائل" قتيلاً. فجّر الحدث موجة غضب عارمة وصلت إلى حدود مرعبة خطيرة أعادت بالذاكرة إلى 18 اكتوبر 1980 حين قتل شرطي هواري بن محمد (17 عاما) وأثار الأمر غضباً عارما. ولا يبدو أن الأمور تبدّلت كثيرا مذاك.
إثر مقتل "نائل" شهدت عشرات المدن هجمات، بعضها منظّم، ضد مبان حكومية ومخافر شرطة وسجون ومدارس وبنى بلدية وبنى تحتية عامة طالت وسائل نقل من حافلات وقطارات ناهيك عن حرائق طالت مئات من السيارات. أثار الأمر تخوّفا من انفلات الوضع وتدحرجه نحو احتكاكات أهلية تتجاوز صدام الشارع مع الدولة. بدا الأمر خطيراً إلى درجة أن القيادات المجتمعية المحلية للأحياء التي تفجّر فيها غضب الأهالي راحت تكثّف الدعوات للحكمة والهدوء ونظّمت بحضور والدة الفتى الضحية "مسيرة بيضاء" من أجل تعبير سلمي عن الغضب ومطالبة بتحقيق العدالة.
يطرح الحدث من جديد مسائل قديمة-جديدة بشأن إدارة الصراع المجتمعي، الذي يأخذ أبعاداً سياسية في فرنسا. لسان حال سكان الضواحي يقول إن الأمر يعبّر عن حالة بنيوية متجذّرة من الاستخفاف بمشاكل الضواحي ودفع هذه المناطق وشرائحها المجتمعية نحو الهامش خارج المتن الحقيقي للبلد في خرائط الثروة والسلطة. ولسان حال رجال الشرطة يقول إنهم يدفعون ثمن معضلة هي من مسؤولية الدولة والنظام السياسي بكافة مكوناته الموالية والمعارضة وهم (الشرطة) يدفعون ثمن ذلك.
هي الجريمة، طالما أن المدعي العام وجه تهمة القتل العمد إلى الشرطي الذي أطلق النار، وضحيتها فتى ينحدر من أصول عربية مهاجرة. والمأساة التي دفع ثمنها ذلك الشاب وعائلته تطلق جدلاً يتكرر يتواجه داخله أولي اليمن وأولي اليسار، بعضه يأخذ أبعادا طبقية اجتماعية، لكن بعضها الآخر يأخذ بعدا هوياتيا ثقافيا يروق لأحزاب اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية أن تعزف على أوتاره.
وما بين الدفاع الحازم عن "الشرطة صاحبة الحقّ في الدفاع عن أمن الفرنسيين" في خطاب اليمين المتطرف وإدانة اليسار لـ "رخصة القتل" الممنوحة لرجل الشرطة، وفق تغريدة لليساري الراديكالي جان لوك ميلنشون، فإن استغلال الحدث من أجل تصفية حسابات سياسية وتغذية أجندات انتخابية يتقدّم على نحو انتهازي خبيث.
استشعرت الحكومة الفرنسية جسارة "ثورة الضواحي" الجديدة. بدا أن الدولة فقدت السيطرة على الأمور وباتت فرنسا تستفيق في الأيام الأخيرة على مشهد أسود من رعب ودمار. كان الرئيس إيمانويل ماكرون وصف مقتل الفتى، بأنه "غير مفهوم" و"لا يمكن تبريره"، مشيراً إلى أن القضية "أثرت على الأمة بأكملها"، لكنه الخميس ندد بـ"مشاهد عنف .. لا يمكن تبريرها".
وكان من تدابير التهدئة قرار القضاء الفرنسي توجيه التهمة للشرطي وعدم الإفراج عنه وتقديمه للمحاكمة بما من شأنه خفض مستوى الغضب وبالتالي حجم الغضب. وجدير التنويه بأن الإعلام الاجتماعي وما أظهره من فيديوهات بشأن ظروف مقتل الفتى كان حاسماً في الدفع برواية قضائية كانت ستكون مشوّهة لو لم تكن الأدلة في الإعلان تثبت ما ارتكبه الشرطي بحقّ الضحية.
لكن حكومة رئيسة الحكومة اليزابيت بورن تحركت ميدانيا دافعة بالوزراء المعنيين، لا سيما رئيسة الحكومة ووزيري الداخلية والعدل، للقيام بجولات ميدانية مطلقين عدة مواقف.
الأول، خطاب أسف وتفهّم لعمق المأساة التي نالت من حياة فتى بعمر 17 عاماً، وهو خطاب متسلّح بالاحتكام إلى العدالة وحدها واحترام مسالكها وقرارتها.
الثاني، خطاب حزم هدفه طمأنة الناس بإمساك الدولة بزمام المبادرة من خلال استنكار ما طال الممتلكات العامة من ضرر مادي وما طال سكان الأحياء المتضررة من ضرر معنوي ومن خلال الإعلان عن تدابير أمنية رفعت عديد قوات الأمن المكلفة بمواجهة هذا التطوّر من 10 إلى 40 ألف رجل.
الثالث، خطاب مناشدة (في طعم النقد والامتعاض) للطبقة السياسية بتجاوز حساباتها التكتيكية والمشاركة في الدعوة للهدوء وعدم استغلال المناسبة لحساباتها السياسوية.
يأتي سياق الحدث متناسلا من سنوات من التوتر في الشارع ومن صدامات ميدانية شهدتها فرنسا منذ حركة "السترات الصفر" انتهاء بالاحتجاجات العنيفة بشأن إصلاح نظام التقاعد في البلاد. يأتي أيضا من داخل انقسام سياسي عبّرت عنه الانتخابات التشريعية الأخيرة في عام 2022 والتي أفقدت تحالف الرئيس ماكرون الأغلبية المطلقة وأنتجت برلمانا متصدّعا متشظيّا يعبّر بدوره عن انقسام داخل المجتمع الفرنسي نحوه.
ولئن تشبه احتجاجات فرنسا تلك التي تنفجر عادة في الولايات المتحدة في كل مرة يرتكب فيها رجال الشرطة تجاوزات وانتهاكات تؤدي إلى سقوط قتلى، غير أن الحالة الفرنسية تبدو نافرة داخل الفضاء الأوروبي الكبير الذي لا تسجل دوله مستويات العنف والشغب والعام التي باتت من تقاليد الحراك السياسي والمجتمعي في فرنسا.
والأرجح أن حكاية فرنسا مع ماضيها الاستعماري، لا سيما في شمال أفريقيا، كما فشل حكوماتها المتعاقبة في تحقيق الدمج الموعود لمجتمع المهاجرين، يضاف إلى تخشّب عقلية إدارية ثقافية تتيح تسرّب عنصرية كامنة في عمل الشرطة، انتهاء بجدل هوياتي مفرط في هذا البلد، كلها عوامل تفسّر هبّات الضواحي ولا تّعِد بأي منافذ واعدة.