رشحت مؤخرا أنباء عن محادثات سرية غير مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران للتوصل إلى اتفاق مرحلي يجمَّد على أساسه البرنامج النووي الإيراني ويخضع لرقابة دولية، وتطلق إيران سراح معتقلين أميركيين لديها مقابل إفراج الولايات المتحدة عن أموال إيرانية مجمدة والسماح بتصدير مقادير معينة من النفط الإيراني.
رغم عدم الإفصاح الرسمي لا الأميركي ولا الإيراني عن قرب إبرام هذه الصفقة، فإن مصادر مختلفة، أوروبية وإيرانية وأميركية وإسرائيلية، أكدت وجودها والاقتراب من إبرامها.
إذا صحت التفاصيل المسربة بخصوص هذه الصفقة، فهي تمثل انتصارا مؤقتا لإيران في سياق دولي أوسع أصبح ضاغطا على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. يتصل هذا السياق الدولي بثلاثة أمور تبدو مترابطة. الأول هو الانشغال الغربي بالنزاع في أوكرانيا وإصرار أميركا وأوروبا الغربية على دعم أوكرانيا عسكريا حتى تحقيق الانتصار أو إجبار روسيا على الانسحاب ومنع أي محاولات تمدد إقليمي أوروبي لها مستقبلا.
استفادت إيران من هذا الانشغال كثيرا، إذ تراخى تطبيق العقوبات الغربية عليها، على نحو متعمد أميركيا في بعض الأحيان، كما في السماح بتصدير نفط إيراني. في الأشهر الأخيرة بلغت نسب التصدير بحدود مليون ونصف مليون برميل يوميا مع بعض الصعود والنزول المرحليين. تغض أميركا النظر عن مثل هذا التصدير لأنه يساهم في الحد من ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية ما يسبب في تخفيف الضغط المالي، واحتمالات التضخم، على دول أوروبا الغربية التي تواجه انقطاع صادرات الطاقة الروسية لها بسبب الحرب في أوكرانيا.
الأمر الثاني هو التعاون العسكري الإيراني الروسي المتصاعد الذي أصبح عامل قلق غربي، خصوصا بعد تزويد إيران روسيا بالطائرات المسيرة "الانتحارية" المعروفة باسم "شاهد" التي آذت كثيرا البنية التحتية الأوكرانية، كمحطات الكهرباء في الأشهر الأولى من هذا العام.
مؤخرا وحسب مصادر رسمية أميركية، تقوم إيران ببناء مصنع للطائرات المسيرة في روسيا بالتعاون مع الأخيرة التي ترغب بتحسين قدراتها في استخدام الطائرات المسيرة المتأخرة نسبيا مقارنة بالقدرات الأوكرانية في هذا المجال. في مقابل هذا تسعى إيران لشراء أسلحة روسية ثقيلة ومتطورة خصوصا الطائرات الحربية وطائرات هليكوبتر لتحديث أسطولها ذي الطائرات القديمة. إذا صحت التسريبات بخصوص الاتفاق النووي المؤقت، سيكون على إيران أن توقف تعاونها العسكري الحالي مع روسيا كأحد شروط إمضاء هذا الاتفاق.
قد يكون الأمر الثالث هو الأكثر تأثيرا في القرار الأميركي وكذلك الإيراني بعقد هذه الصفقة، ولأسباب مختلفة تماما لكلا الطرفين. يتعلق هذا الأمر بإسرائيل ورغبتها المتصاعدة بتدمير البرنامج النووي الإيراني بالكامل عبر استهدافه بضربات جوية وصاروخية مكثفة. ترفض أميركا هذا المخطط الإسرائيلي وتضغط لمنعه، كما رفضت تزويد إسرائيل بالأسلحة المتطورة اللازمة للقيام بهذه العملية، بينها قنابل ضخمة تستطيع اختراق التحصينات الإيرانية القوية تحت الأرض.
بدون هذه الأسلحة الأميركية لا تستطيع إسرائيل تدمير كامل البرنامج النووي الإيراني في يوم أو يومين، بل تحتاج، في ضوء قدراتها الحالية، أسابيع من الضربات المتواصلة لإتمام هذه العملية. في هذه الأثناء يشتعل الشرق الأوسط، فليس منطقيا تصور أن إيران ستبقى ساكتة على مدى أسابيع وهي تتلقى قصفا إسرائيليا متواصلا لها وهي تمتلك ترسانة صواريخ باليستية كبيرة تقطع مسافة ألفي كيلومتر، فضلا عن وجود حلفاء لها مسلحين صاروخيا، في العراق ولبنان وفلسطين واليمن، لن يقفوا مكتوفي الأيدي في أثناء هذا الاستهداف.
إذا اشتعلت النيران في الشرق الأوسط فلا يعرف أحد، ولا حتى الولايات المتحدة، كيفية إطفائها. يمثل هذا السيناريو كابوسا أميركيا تحاول الولايات المتحدة تجنبه بأي ثمن، خصوصا في أثناء انشغالها الشديد بالحرب الأوكرانية الروسية.
الولايات المتحدة فقط لديها القدرة العسكرية لتدمير كامل البرنامج النووي الإيراني في يوم واحد، لكنها ليست مستعدة لمثل هذا السيناريو في ظل تركيزها على دعم أوكرانيا ضد روسيا وتحسبها من النيات العسكرية الصينية باتجاه تايوان. كما أنها لا تريد حسما عسكريا للملف النووي الإيراني لأنه يفتح بابا جديدا لنزاع مفتوح في منطقة هي أصلا تريد أن تقلل وجودها. لن تلجأ أميركا للخيار العسكري الكامل إلا إذا اضطرتها إيران لذلك من خلال زيادة تخصيبها اليورانيوم ليبلغ نسبة 90 بالمئة اللازمة لصناعة قنبلة نووية.
أخيرا، تدمير المنشآت النووية الإيرانية لن يلغي القدرات الإيرانية الأساسية اللازمة لإعادة تشكيل أي برنامج نووي والمتمثلة بالخبرات والمعارف الإنسانية التي تمتلكها إيران في إعادة البناء. فحتى مع الهجمات العسكرية والإلكترونية الإسرائيلية المتكررة ضد المنشآت الإيرانية كانت إيران دوما تعيد بنائها، وفي الغالب بمواصفات أعلى، كما أقرت مصادر أميركية بهذا.
أيضا لا تريد إيران الذهاب إلى مواجهة مسلحة مفتوحة مع إسرائيل يمكن أن تتسع وتشمل تاليا الولايات المتحدة. في الغالب ستقود مثل هذه المواجهة إلى تشديد العقوبات الاقتصادية عليها وإضافة المزيد منها فضلا عن إثارة دول المنطقة ضدها، خصوصا في حالة استخدامها حلفائها المحليين في المنطقة من مجاميع مسلحة في عمليات عسكرية تستهدف مناطق الوجود العسكري الأميركي أو حلفاء واشنطن في المنطقة. لن تستطيع إيران حسم مثل هذه المواجهة لصالحها ولا التنبؤ بنتائجها، لكن الدوافع الإيرانية الأقوى للدخول في هذا الاتفاق المرحلي هي دوافع داخلية أساسا مرتبطة بعوامل اقتصادية وسياسية.
فالضغوط الاقتصادية بسبب العقوبات الغربية وتراجع قيمة الريال الإيراني شبه المتواصلة تُسعّر الحس بالمعارضة والتبرم داخليا وتدريجيا تضعف قاعدة دعم النظام. كانت الاحتجاجات المتفرقة لكن المستمرة على مدى أشهر قبل اخمادها المتعلقة برفض ارتداء الحجاب الإجباري على النساء دليلا مقلقا للنظام على إمكانية بروز أشكال جديدة من المعارضة لسياساته الاجتماعية، لكن يمكن لها أن تتحول سريعا إلى معارضة سياسية تتغذى على المصاعب الاقتصادية التي تعيشها الطبقات ذات الدخل المحدود وهي الطبقات التي تمثل ركنا شعبيا اساسيا في دعم النظام السياسي.
رغم حاجة الطرفين، أميركا وإيران، لإبرام اتفاق مرحلي يخدم مصالحهما المختلفة، فإن التحديات التي تعترض مثل هذا الاتفاق كبيرة أيضا كما في رفض حلفاء أميركا في المنطقة له، وعلى الأخص إسرائيل، فضلا عن المعارضة الداخلية في الكونغرس الأميركي لمثل هذا الاتفاق. تستطيع إدارة بايدن تجاوز هذه التحديات، لكن ثمة تحديا سيكون الأصعب وربما يمنع إمضاء هذا الاتفاق. إنه انعدام الثقة بين إيران وأميركا الذي أفشل محاولات سابقة للتوصل إلى اتفاقات نهائية او طويلة الأمد بين الطرفين. تزداد احتمالات الارتياب هذه المرة لأن الاتفاق الذي يدور الحديث بشأنه الآن ليس رسميا ولا مكتوبا بحسب مصادر متفرقة، إذ هو أقرب إلى تفاهم ضمني منه إلى اتفاق رسمي، وأداة التأكد الأساسية فيه هي منظمة الطاقة الذرية من خلال استعادة قدراتها الرقابية على البرنامج النووي الإيراني. تتهم إيران عادة منظمة الطاقة والمفتشين الدوليين الذين يراقبون البرنامج بالانحياز ضدها.
إمضاء مثل هذه التفاهمات صعب جدا لكنه ليس مستحيلا. سيعتمد الأمر كثيرا هذه المرة على الاستعداد الإيراني لمنح هذا التفاهم فرصة النجاح.