وأرجع البنك تباطؤ النمو الاقتصادي في النصف الثاني من العام الحالي إلى ثلاثة عوامل هي ارتفاع اسعار الفائدة الأساسية في أغلب دول العالم واستمرار تأثير أزمة وباء كورونا والحرب في أوكرانيا.

تظل تلك التوقعات والتقديرات، من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وشركات الاستشارات والبنوك الاستثمارية مهمة للمستثمرين وصانعي القرار الاقتصادي في دول العالم. ذلك على الرغم من أنها اصبحت في الآونة الأخيرة محل شك كبير مع تكرار فشلها وتطور الأمور في الواقع الفعلي عكسها. فعلى مدى أكثر من عام اضطر صندوق النقد الدولي إلى تعديل توقعاته للنمو الاقتصادي العالمي ربما خمس مرات (بدلا من تقريرين في العام) لأن الأرقام الحقيقية للنشاط الاقتصادي جاءت عكس التقديرات.

ومع أن التوقعات، كأي تقدير مستقبلي يعتمد على نماذج تحليل تفترض سير الأمور طبق أنماط معينة معروفة سلفا، تظل توقعات اي تحتمل الصواب والخطأ إلا أن تكرار فشلها جعل الثقة فيها تراجع. فمنذ أزمة وباء كورونا عام 2020، أصبح من الصعب تطبيق نماذج التحليل تلك على الاقتصاد العالمي الذي أصيب بقدر هائل من "التشوه" نتيجة الاغلاق الذي عزز اختلالات هيكلية لم يتم اصلاحها منذ الأزمة المالية العالمية في 2008. مع ذلك لا يمكن الاستغناء عنها عند وضع استراتيجيات استثمار وتوسع نشاط مستقبلية.

بالنظر إلى تقرير البنك الدولي الأخير نجد أنه يستند في استبعاده احتمالات الركود هذا العام إلى نمو قوي في الولايات المتحدة والصين، أكبر وثاني أكبر اقتصاد في العالم. ومع أن مرونة الاقتصاد الأميركي قد تمكنه فعلا من تفادي الركود، إلا أن الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي ما زال يرى احتمالا للركود قبل نهاية العام.

أما الأسباب التي ذكرها التقرير كمثبطات للنمو العالمي فهي في الحقيقة "استسهال تبسيطي" لمشاكل الاقتصاد العالمي الجذرية التي يتفادى الجميع التصدي لها. فارتفاع اسعار الفائدة يأتي ضمن دورة تشديد نقدي منطقية، وإن تأخرت لفترة طويلة، وبالتالي يمكن لأي اقتصاد سليم ومتين أن يتحملها ويتعامل معها.

إن كان صحيحا أن تأثير أزمة وباء كورونا لم ينته بعد، فإن اعتباره سببا اساسيا لمشكلة الاقتصاد العالمي الآن يعد مبالغة إلى حد ما. فما حدث في عامي 2020 و2021 كان "تعطيلا مقصودا" للاقتصاد وليس ركودا طبيعيا، وبالتالي فالخروج منه وتحقيق الانتعاش ممكن إذا تصرفت السلطات بشكل صحيح. أما حرب أوكرانيا فهناك منذ اليوم الأول مبالغة مقصودة في استخدامها شماعة لأي فشل اقتصادي هنا أو هناك. وحتى الحظر الأوروبي على واردات الطاقة من روسيا لم يؤثر كثيرا في أسواق الطاقة العالمية سوى بتعديل اتجاهات انسياب النفط والغاز. وان كان ذلك أحدث بعض الاضطرابات فقد تم تجاوزها الآن، والدليل على ذلك انخفاض أسعار النفط من 120 دولار للبرميل العام الماضي إلى نحو 70 دولارا الآن. وكذلك انخفاض أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا إلى مستويات متدنية جدا.

ربما كان ما يمكن أن يؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد العالمي إلى حد احتمال الركود فعلا هما عاملان أكثر أهمية: الديون والتجارة. بالنسبة للدين العام المتنامي، خاصة في الدول الصاعدة، قد يكون لارتفاع اسعار الفائدة تأثير سلبي كما ذكر تقرير البنك الدولي. فذلك يرفع كلفة خدمة الدين ويجعل أغلب الدول غير قادرة على الاقتراض لتمويل إعادة هيكلة ديونها، ناهيك عن الاقتراض للاستثمار في توسعة النشاط الاقتصادي وتحقيق النمو. ومن يتابع أسواق السندات، التي لا تحظى غالبا بالتغطية الإعلامية التي تتابع اسواق الأسهم، يدرك أن هناك فقاعة دين عالمي تغلي وقد تنفجر في أي لحظة.

المشكلة الثانية هي التراجع المستمر في التجارة العالمية، والتي لم تنتعش كما كان متوقعا بعد أزمة وباء كورونا التي عطلت التجارة وسلاسل التوريد نتيجة الاغلاقات في عامي الوباء. يمكن للبعض اعتبار تراجع التجارة ناجما عن تباطؤ النمو الاقتصادي، لكن الشواهد في العامين الأخيرين تشير إلى أن عدم انتعاش التجارة العالمية ربما كان سببا أكثر منه نتيجة للتباطؤ. وبشكل أكثر تحديدا، فإن التوسع الهائل في العقوبات الاقتصادية الأميركية والغربية على روسيا أثر سلبا على التجارة الدولية. إنما الأهم والأخطر هو المحاولات الأميركية-البريطانية لخنق الصين اقتصاديا. وتمارس واشنطن ولندن ضغطا على الحلفاء الغربيين لزيادة القيود على التعامل التجاري مع الصين. ولم يبدأ ذلك مع حرب أوكرانيا واتهام أميركا والغرب بكين بالوقوف إلى جانب روسيا، بل بدأ من قبل بالاجراءات الحمائية التي تتخذها الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما للحد من الصادرات الصينية إليها وحظر المنتجات الصينية. وزادت وتيرة ذلك مع ازمة وباء كورونا واتجاه الولايات المتحدة وغيرها لتوطين سلاسل التوريد بغرض تفادي الاعتماد على التجارة مع الصين.

على مدى عقد أو اكثر قبل أزمة وباء كورونا كان الاقتصاد الصيني هو قاطرة النمو للاقتصاد العالمي مع توسعه بأكثر من عشرة في المئة سنويا، وحتى الآن لم يفلح اقتصاد آخر بما فيه أكبر اقتصاد في العام بأميركا في تولي ذلك الدور. ومن شأن تثبيط النمو الصيني عمدا من خلال عزل بكين اقتصاديا كما تريد واشنطن ولندن وغيرها أن يستمر تراجع التجارة العالمية وبالتالي تباطؤ الاقتصاد، حتى لو زادت بكين تعاملاتها مع اسواق أخرى في الشرق الأوسط وافريقيا فإن فقدان الأسواق الأميركية والأوروبية يعني خصما هائلا من النمو، الصيني والعالمي.