جاء هذا التهديد في سياق السعي الذي تصدرته حينها القوى الشيعية في البرلمان العراقي، خصوصاً من حلفاء إيران الوثيقين، لطرد القوات الأميركية من البلاد رداً على عملية الاغتيال المدوية.

ليس معروفاً أثر هذا التهديد على سلوك البرلمان حينها، لكن الذي حدث هو أن القوى الشيعية اكتفت بإصدار قرار نيابي غير ملزم بإخراج هذه القوات في مشهد صاخب وعاطفي في البرلمان، ولم تذهب نحو تشريع قانوني يُلزم الحكومة بإخراج القوات الأميركية. الفارق بين القرار النيابي والتشريع القانوني واضح وكبير. يمر القرار النيابي بتصويت واحد ولا يُعد ملزماً، بل هو أحد أشكال النصيحة أو التوصية التي يصدرها البرلمان للحكومة لحثها للقيام بعمل ما، كما أشارت المحكمة الاتحادية في قرارات مختلفة لها. لا يعطي الدستور العراقي للبرلمان حق إصدار قرارات نيابية تُلزم الحكومة للقيام بشيء ما، إذ نص الدستور على ان للبرلمان حق تشريع قوانين يكون واجب الحكومة تطبيقها. تمر مشاريع القوانين بقراءتين وتصويتين على الأقل قبل أن تصبح قوانين نافذة، وحسب تفسير المحكمة الاتحادية لا بد أن تبدأ القوانين كمشاريع من رئاسة الحكومة او الجمهورية التي تقدمها للبرلمان الذي يقوم بدراستها عبر اللجنة أو اللجان الفرعية المتخصصة أولاً والتصويت عليها هناك قبل عرضها على كامل البرلمان للدراسة والتصويت عليها مرتين. يتطلب تشريع القانون عدة جلسات للبرلمان على مدى فترة زمنية يمكن أن تصل لأسابيع أو أشهر، حسب أهمية الموضوع.

لم يحصل أي من هذا في جلسة السادس من يناير 2020 عندما صوت البرلمان على قراره النيابي المطالب بإنهاء وجود القوات الأميركية (كانت حكومة عبد المهدي المستقيلة حكومة تصريف اعمال وبالتالي لا يحق لها تقديم مشاريع قوانين للبرلمان). لم يُنفذ هذا القرار رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على صدوره. ما الذي كان سيحصل لو فعلاً طردَ العراقُ القوات الأميركية حينها ونفذت أميركا تهديدها بغلق الحساب المصرفي العراقي في نيويورك؟ قليلون في الحكومة العراقية، وبينهم رئيس الوزراء حينها عادل عبد المهدي، كانوا يفهمون بدقة معنى هذا التهديد والنتيجة المدمرة المحتملة له. من المنطقي أن النواب البرلمانيين عرفوا من خلالهم عواقب الإغلاق: لن يستطيع العراق نقل أمواله المتحققة من بيع النفط الى البنك المركزي العراقي حيث تودع عادةً معظم هذه الأموال وعبرها تدفع الدولة الرواتب والمستحقات المالية الأخرى لتدور عجلة الاقتصاد والحياة في البلد لأن الأموال الرسمية العراقية ستتعرض على الأغلب للحجز لاستيفاء تعويضات مالية قضائية أصدرتها محاكم في دول كثيرة على مدى عقدين أو أكثر.

هذا الوضع العراقي الشاذ هو أحد المشاكل الكبرى الناتجة من غزو العراق للكويت 1990 التي ما تزال دون حل بسبب رفض الحكومات العراقية المتعاقبة منذ التسعينات التعامل مع هذه المشكلة. بعد إنزال العقوبات الاقتصادية والمالية المختلفة بالعراق نتيجة غزوه الكويت، كان عليه أن يدفع تعويضات مالية هائلة للكويت ودول وشركات كثيرة قدمت طلبات تعويض إلى لجنة التعويضات التابعة للأمم المتحدة التي تشكلت بموجب القرار الدولي 692 الصادر في 1991. على مدى فترة عملها التي استمرت 31 عاماً قبل حلها في عام 2022، وافقت هذه اللجنة على نحو 1.5 مليون طلب تعويض من مجموع 2.7 مليون طلب مقدم. ببداية عام 2022، انتهى العراق من دفع 52.4 مليار دولار ليقرر مجلس الأمن حل هذه اللجنة أخيراً وتحويل المبلغ المتبقي في صندوقها للعراق.

لكن هناك طلبات تعويض اخرى كثيرة خارج هذه اللجنة رُفعت أمام محاكم في دول مختلفة كبريطانيا وكندا وأميركا ودول في الاتحاد الأوروبي على مدى أكثر من عقدين من الزمن. لان العراق، سواء في عهد النظام السابق أو النظام الحالي، لم يولي أهمية لهذه القضايا وعلى نحو دائم تقريباً لم يوكل محامين يمثلونه لتفنيد طلبات التعويض أمام هذه المحاكم، صدرت أحكام تعويض مالية تتجاوز ما يسمى بالحصانة السيادية لأموال الدول وممتلكاتها. تعني الحصانةُ السيادية الحمايةَ القانونية المعتادة التي بموجبها تستطيع الدول صاحبة السيادة صيانة أموالها وممتلكاتها الموجودة في الدول الأخرى من القرارات السياسية والبرلمانية والقضائية الأجنبية المتعلقة بتجميدها ومصادرتها ووضع اليد عليها وغيرها من الإجراءات المحتملة في حالات النزاع. لكن هذه الحصانة السيادية ليست مطلقة ويمكن تعطيلها بحسب استثناءات في قوانين الدول التي توجد فيها هذه الأموال والممتلكات. على هذا النحو، صدرت أحكام تعويضات مالية من محاكم ضد العراق في سياقات مختلفة، بعضها لصالح شركات ادعت الضرر من غزو العراق للكويت وبعضها الآخر لصالح أفراد كما في حالة بعض الرهائن الأجانب الذين احتجزهم نظام صدام في بداية الغزو قبل أن يطلق سراحهم تباعاً على مدى أشهر. يعني تطبيق هذه الأحكام تجميد الحسابات المصرفية أو الممتلكات الرسمية العراقية في الخارج لاستيفاء الأموال المطلوبة.

تَحمي الأوامرُ الرئاسية الأميركية، وعلى الأخص الأمر الرئاسي 13303، الأموالَ العراقية في الخارج من احتمالات التجميد والمصادرة وسواها. لإنهاء الحاجة لهذه الحماية الأميركية واحتمالات استخدامها للضغط مستقبلاً على العراق، تحتاج الدولة العراقية ان تصفي تركة هذه القضايا عبر خطوات محددة. الخطوة الأولى والأساسية هي جرد كل هذه القضايا، بالأحكام الصادرة فيها ومقدار المبالغ المطلوبة، لأنه لحد الآن لا توجد معرفة عراقية دقيقة بخصوص هذا الأمر بسبب توزع هذه القضايا على بلدان كثيرة (تستطيع السفارات العراقية أن تساعد كثيراً بهذا الصدد) والإهمال الرسمي العراقي للموضوع. ثانياً، الدخول في تفاوض مع المستفيدين من هذه القضايا للتوصل الى تسوية ما يحصل بموجبها المستفيدون على جزء من الأموال المطلوبة، أو حتى التنازل عنها لقاء منحهم فرص اقتصادية مستقبلية في البلد، مقابل إنهاء هذه القضايا رسمياً أمام المحاكم المعنية ليتحرر العراق من قرارات هذه المحاكم ويستطيع أن يفتح حسابات مصرفية ويحرك أمواله في الخارج بسهولة. ثالثاً، وهذا هو الأهم ولسوء الحظ الأصعب عراقياً، هو سلطة قرار موحدة وواضحة من بغداد تقود هذه العملية المعقدة التي تتضمن منح صلاحيات لوزارات كوزارة الخارجية عبر سفارات عراقية وشركات محاماة دولية رصينة لحصر هذه القضايا والمطالبات الناشئة عنها والتفاوض بشأنها واتخاذ القرارات اللازمة لإنهائها قانونياً.

عادةً ما تكون مثل هذه الملفات معقدة لكنها ليست مستحيلة الحل عند توفر الصبر والإرادة ووضوح الرؤية ووحدة القرار. تجنبت كل الحكومات العراقية بعد 2003 التعاطي مع هذا الملف الهام، واختارت تأجيله مستفيدةً من الحماية الأميركية التي تُجدد سنوياً. لكن هذا التأجيل مُضر بالعراق وبمصالحه ويرهنه بالعلاقة بأميركا وهي علاقة ليست مستقرة أو راسخة. بدلاً من الضجيج العراقي العالي سياسياً وإعلامياً بخصوص السيادة وضرورة التضحية من أجلها وحمايتها الخ الخ، تحتاج الحكومة العراقية، ومعها كامل الطبقة السياسية الحاكمة، أن تحقق أحد أهم متطلبات هذه السيادة: القدرة القانونية للعراق على التحكم بأمواله ونقلها.