هل ما تشهده منطقة غرب إفريقيا هو "رد ثقافي" عن الفرنكوفونية من جراء الخيبات والإخفاقات وطول انتظار لإشراقات لا تأتي، ولبعث طالما بشر به مثقفو القارة السمراء منذ استقلالها، بعد مسيرة جربوا فيها كل فنون ممارسة السلطة، شمولية كانت أو فردية، اشتراكية أو رأس مالية؟
منذ بواكير الاستقلال، راهنت أوساط غرب إفريقية عدة على البعث الفرنكفوني والدور الذي سيلعبه لتوحيد ذلك الجزء من القارة، التي كانت بأمس الحاجة إلى خطاب ولغة يحملانها إلى العالم، ويخلصانها من عوائق اللغة المشتركة ومن الأيدولوجيات المتعددة وأسئلة الهوية.
أتت الفرنسية محمولة على الأكتاف، لا كلغة فقط، بل كإرث غني، وهبة من السماء لشعوب متعددة اللغات والإثنيات تتطلع إلى شق طريقها عبر مشروع وطني مشترك تتمكن من خلاله من صناعة وجودها لتصدير خطابها ليحل محل عشرات اللغات المحلية والأفكار المتعددة التي ستكون عائقا أمام أي مشروع حضاري لها.
تبلورت أولى إرهاصات تحقيق ذلك، من خلال ليوبولد سينغور، أول رئيس للسنغال 1960-1980، الذي عد من أبرز المفكرين الأفارقة في القرن العشرين، والذي سعى وأيد فكرة الفدرالية الإفريقية، وشكل مع الرئيس المالي وقتها موريبو كيتا "الاتحاد الفرنسي" أو "مالي الحديثة" بغية المشاركة في تدشين بعث سياسي في الطرف القصي من القارة السمراء الباحثة عن نفسها بعد الحركات الاستقلالية.
سعى سينغور إلى لملمة الشتات في غرب القارة وتوحيدها صوب الفكر والثقافة الفرنكوفونية، فأيد إنشاء لجنة المنظمة الدولية للفرنكوفونية، وانتخب نائبا لرئيس المجلس الأعلى للناطقين باللغة الفرنسية.
وفي الدولة المجاورة للاتحاد، بوركينافاسو، أشرقت شمس المفكر والمؤرخ الكبير جوزيف زيربو، الذي عمل بدوره على مشروع إدراج القارة في تاريخ العالم ومصائره، وكان من رفاق عدد من قادة القارة حينها ومن بينهم سينغور.
وقد عمل زيربو على مهمة مضنية في "إيقاظ تأريخ إفريقيا" عرفت بـ"بريزانس أفريكين"، لجمع الهوية من أجل عمل وطني إفريقي يعد بنهوض القارة فكريا وثقافيا عبر تاريخها وإسهامها البشري والثقافي الذي عانى من النكران والنظرة الدونية فأراد إعادة الاعتبار له.
عم التفاؤل، ومضت دهاليز المثقفين وأروقة الإعلام والنخب الصاعدة تنادي في أرجاء القارة، وتتواصل مع المناضلين مبشرة بفجرها الجديد، حتى تم تكريس صورة جديدة تعلن عن ميلاد "المثقف الفرنكفوني" بكل سماته التي حلم بها أبناء المنطقة، فانحسرت أمام مده اللغات والثقافات البِدئية، وقبرت الأفكار المتخلفة والرجعية، لدرجة جعلت الرئيس المالي وقتها "موديبو كيتا" ينادي بالتزاوج بين البيض في الشمال وبين الجنوبيين لاستقبال جيل جديد يذيب الفوارق بين مواطني البلد الفرنكفوني ومشروعه الاشتراكي.
انطلق المشروع الحضاري الواعد، الذي سيصبح سمة للمنطقة في العقود التالية، لكن أفكار زيربو السامية حوصرت ووئدت عبر ممارسات أنظمة المنطقة، ممن لم تكن لها أدنى كفاءة في حمل رسالته وترجمتها واقعا عبر التعليم والممارسة السياسية النزيهة التي كان سينغور أول من نقضها، إذ لم يترجل عن كرسي السلطة إلا بعد عقدين على تكريسه لسلطة الفرد.. ظن خلالها أنه يضع بلاده وكل المنطقة على الطريق الصحيح.
ولاحقا، وفيما ستتحرر السنغال، وتطلق العنان لنفسها، وتمارس السلطة عبر مؤسسات منتخبة، وتعيش الحد الأدنى من حلم شعبها، تقلبت سنوات الحكم لدى الجارتين مالي وبوركينافاسو، فأنتجتا أنظمة غير مستقرة، بل استبدادية، فبدأت وعود الحلم الفرنكفوني فيهما بالأفول، وبدأ المثقفون في التململ ووصم البعض الفكرة برمتها بالفشل بعد أن أنهكتهم الأحلام وتقطعت بهم السبل في طرق انتظار طويلة.
خلال العقود التالية، تعددت الاتهامات ووزعت بين مستعمر بلا رؤية، لا هم له سوى استغلال القارة والاستئثار بثرواتها دون ضمير في إشراك سكانها فيها وانتشالهم من بؤسهم، وبين شعوب لم تشبّ عن الطوق بعد، وغير قادرة على ممارسة الحكم الرشيد، وممارسة التعددية وفقه التنمية.
وباريس التي لم تغب عن المشهد منذ رحيلها كمستعمر، أكدت في أكثر من موقف رعايتها وقيامها بمسؤولياتها تجاه مستعمراتها السابقة، لكنها عاجزة أمام الفشل السياسي والاقتصادي في المنطقة الذي نتج جراء ممارسات غير مسؤولة لمتسلقي هرم السلطة، وأنها ما فتئت تقدم مبادرات مختلفة في القمم الفرنكوفونية، وشجعت على قيام وبناء تحالفات اقتصادية، وسعت لاستقرار هذه البلدان عبر تدخلات عسكرية قامت بها خلال الخمسين عاما الماضية في الأراضي الإفريقية لتأكيد دورها وحرصها على استقرار الأنظمة الديمقراطية الوليدة، وحماية إرادة شعوب المنطقة.
في المقابل، أصيبت هذه الدول بالوهن، وضجرت شعوبها، فظلت أنظمتها العسكرية تعاود الكرة تلو أخرى عبر انقلابات لا تتوقف كلما شعرت بسخط الشارع وانفلاته لإطفاء غضب الجماهير من فساد السلطة ويأسهم في مضي أي عملية سياسية في طريق مستقيم.
وبعد عقود من المحاولات، بدأت جذوة الفكرة الفرنكفوني تخبو في الأنفس، وكان آخر مسمار في نعشها في مالي حيث خرجت فرنسا تجر ذيول الخيبة من شريكها، بعد إبداء نظام الانقلابين في باماكو صراحة عدم رغبته في الوجود العسكري الفرنسي، بعد امتعاض باريس وسخطها من الانقلابات المتتالية في باماكو أثناء وجودها لحماية النظام من السقوط أمام الحركات المسلحة التي اجتاحت البلاد.
ورافق صعود النظام العسكري في مالي، حراك جماهيري وإعلامي واسع، يعلن "موت فرنسا وفكرها وإفلاس ثقافتها"، معززا بدعاية روسية قوية، دشنت على أعلى المستويات إثر الاستعاضة عن الوجود الفرنسي بآخر روسي عبر شركة "فاغنر" العسكرية التي استدعتها باماكو لحمايتها، ما صاحبته موجة تأييد جماهيرية واسعة عبرت عن ترحيبها بالروس وغير آسفة على مغادرة فرنسا.
فتح كل ما سبق الباب واسعا أمام موجة من الكتاب والمحللين والمنتديات التي أخذت في قراءة المشهد الجديد الذي يريد إقفال النعش بإحكام على الحقبة الفرنكوفونية، وإعلان ميلاد حقبة أخرى جديدة تريد الاعتماد على ثقافات وأفكار مغايرة، علّها تجد فيها ضالتها وطريقا مختصرا لتحقيق أحلامها التي وأدها الفكر الفرنكفوني من وجهة نظرها، وهي دعوات أصبحت لا تقتصر على غرب القارة فقط، بل أصبح شمالها أيضا يصدح بها، بعد خروج أصوات مغاربية تنادي بوقف التبعية للغة الفرنسية التي توارت مواهبها ولا يمكنها دخول معترك المنافسة الجديد أمام المعسكر العالمي الذي تقوده الإنجليزية وتتقدم نحوه الصين وروسيا.