مرة أخرى تتسابق العناوين قبل أن تنعقد قمة جدة العربية وهي التي عرفت سباقاً للسرعة لتحقيق هدف إعادة سوريا لبيتها بعد سنوات قطيعة كان العرب أنفسهم من قرروا إبعادها.
وهذه لحظة مواتية لاستدعاء التاريخ السياسي فالقادة العرب الحاضرين في هذه القمة ليس من أحد منهم حضر قمة القاهرة الصاخبة التي عقدت بعد الغزو العراقي للكويت في العام 1990، نستعيد ذكرى تلك القمة لأنها صنعت شرخاً عميقاً عندما حاول العرب معالجته دخلوا في متاهة ما أطلقوا عليه "المصارحة قبل المصالحة" وهذا العنوان الذي لم تتجاوزه السياسية العربية، وها هم العرب يعودون لطرح المصالحة تحت إطار "تصفير المشاكل" وهذه هي المهمة الحاضرة أمام جيل آخر من القادة لم يشهدوا قمم التخاصمات التاريخية التي أوصلتنا كعرب لأكوام من المشاكل.
المواطن العربي سينتظر الممكن، ففي السودان جرح نازف يحتاج إلى عملية تضميد حقيقية توقف السيولة المتدفقة من دماء أخوة وطن وهذه أزمة لابد من وضع حد لها فكلما تأخر الحل فإن تدويل الصراع سيدخل هذا البلد في متاهة بلدان سبقت كلبنان واليمن وليبيا وحتى سوريا وهم جميعاً حاضرين بجراحهم ليضمدوا جراح أنفسهم قبل شقيقهم السوداني، هذا أول الممكن أمام العرب في قمة جدة وأن نجحوا في هذا الملف سيكون أهم ما أنجزته القمم العربية فيما بعد قمة اللاءات الثلاثة التي أيضاً كانت الخرطوم فيها، هي مشيئة الأقدار للعرب أن يضمدوا جرح سوداني كان في زمن صاحب الدار والقرار.
ومع قمة تصفير المشاكل دعي الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في واحدة من ما يمكن الإشارة إليه بأنه من الممكن عربياً فالحرب الروسية الأوكرانية أحدثت تحولاً جيوسياسي حادا وصل إلى تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب، وهذا النظام لا يريد بعض العرب أن يكرر ما كان في الحرب الباردة، لذلك حاول العرب أن يلعبوا دور الحياد في صراع لا حياد فيه، غير أن الاستقطاب العالمي يضع المنظومة العربية أمام حقيقة أخرى فإما أن يكون لاعباً أو ملعوباً به بين القوى الدولية المتصارعة، لعبت الإمارات دوراً متقدماً بحكم ما تمتلك من علاقات مع روسيا في عمليات تبادل الأسرى وهو ما منح العرب فيما يبدو فرصة ليحاولوا من باب الممكن وضع حلول لنهاية حرب يعرفون أنهم لن يكونوا في حال أفضل إن هي استمرت على ما هي.
أزمة سد النهضة ملف آخر يضاف لأزمات العالم العربي ومعه يفتح ملف الأمن المائي كما الغذائي كما يفتح ملف تغير المناخ هذه أزمات مضافة على أكوام الأزمات التي اعتادت القمم العربية ترحيلها كما رحلت القضية الفلسطينية دون حلول، المشاكل متراكمة فهذه محصلة الواقع العربي الذي لا يمكن بحال من الأحوال تمييزه على اعتبارات أخرى غير اعتبارات الواقعية التي يجب أن تستحضر لوضع حلول ممكنة لما تيسر من المشكلات.
ملفات إيران وتركيا والإرهاب هي الأخرى ليست مستجدة على طاولة القمم العربية ومع انفراجات يسيرة تحققت خلال السنوات الثلاث الأخيرة مع الإيرانيين والأتراك فإن ملف الإرهاب يبدو ثقيلاً فالواقع يقول إن الخطاب المتطرف مازال حاضراً ومازالت البلدان العربية غير قادرة على الدفع القوي بتجديد الخطاب الديني وهي مسألة تغذي التيارات المتشددة التي أيضاً انتعشت بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان وإنهاء فرنسا لعملية برخان في الساحل الأفريقي مما أوجد فراغات استغلتها التنظيمات الإرهابية لتعاود تجنيد عناصر جديدة مما ينذر بموجة عنف قادمة إن لم تحل هذه المشكلة.
المواطنون العرب لا يطلبون الكثير من تصفير المشاكل فهؤلاء المواطنين يعلمون أن عليهم أن يطلبوا ما هو مستطاع ولذلك يتأملون بوقف نزيف جرحهم السوداني ووضع تصورات لآليات العمل العربي المشترك فهذه قمة أخرى تأتي كما جاء ما سبقها بطموحات عالية ولذلك فإن المطلوب هو الممكن من تصفير ما آمن من مشكلات العرب الكثيرة، وحتى القمة التالية لابد من الاستناد على أمل وتطلع لقمة عربية واعدة بلا عواصف ومشاكل.