لم يكن هناك مفر من إحداث تغيير جذرى فى منظومات القيادة والسيطرة، كى تلائم تطور وسائل الاتصال النمطية، وتحولات طرق ووسائل الحصول على المعلومات؛ التى أصبحت تتدفق بلا توقف، تنقلها الابتكارات الجديدة فى مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية؛ التى هى رئة ضخ الأوامر وأداة التحكم.

لذلك فى البداية لعبت كابلات الألياف الضوئية Fiber Optic Cables المصممة بغرض الدعم الفائق لشبكات البيانات والاتصالات بعيدة المدى دورا مهما فى تعزيز إمكانيات القيادة والسيطرة فى الجيوش، أيضا أحدثت الاتصالات باستخدام موجات المكروييف دورا آخر مهما؛ رغم أنها لا تنتقل إلا فى خطوط مستقيمة، مما يحصر انتشار موجاتها فى خط الرؤية المباشر.

لكن تحولا هائلا أدى إلى الانقلاب رأسا على عقب فى أساليب وإجراءات أنظمة القيادة والسيطرة، بدأ هذا التحول بعد انسلاخ أجيال السلاح الحديثة عن تراث التسليح، لدرجة أن الانتقال بين آخر جيلين من السلاح يحدث فى بعض منها ما يشبه القطيعة من حيث الإمكانيات وأنماط الاستعمال، وأوصلت التقنيات بعض أجيال السلاح الأخيرة إلى تعقد كبير فى اعتمادها على الاقمار الصناعية والحواسب، كما فى الطائرات والصواريخ المجنحة، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.

ميدانيا تعقدت ممارسة أعمال القيادات مع تفاوت قدرات الأسلحة المعقدة تكنولوجيا؛ نظرا لما تتسبب فيه من تغيرات سريعة فى سير المعارك، وما نتج عن هذا من سيل معلومات أكثر تعقيدا، وبات على مراكز القيادة والسيطرة أن يكون لديها القدرة على مجاراة إمكانيات السلاح، الذى يبنى مستخدمه قراره بناء على معلومات يحصل عليها آليا من القمر الصناعى؛ الذى لا يكف عن الإمداد بمعلومات قد تكون تقنية مثلما هى ذات أهمية تكتيكية أيضا، مما تطلب تعزيز الاتصال حتى مستوى الوحدات الفرعية والفرعية الصغرى بينها وبين مستويات القيادة التكتيكية والتعبوية بل والاستراتيجية فى بعض الأحيان.

لقد أصبحت مسارح العمليات مهما بلغ اتساعها مكشوفة بين طرفى النزاع قبل اندلاع المعارك، وأضحت أيضا متاحة تماما بما يحدث من تحركات وتغيرات لأوضاع القوات عملياتيا أثناء الاشتباكات، مهما بلغ اتساع المسرح، وكثافة القوات.. هذا الوضع أنتجته:
1 - الأقمار الصناعية العسكرية وغير العسكرية أحيانا.
2- وسائل الاستطلاع الحديثة فائقة القدرات.
3 - الطائرات المسيرة المرتبطة مباشرة بشبكات الحواسب.

يتطلب تعدد وسائل الحصول على المعلومات ميدانيا قدرة هائلة لتصنيفها والمقارنة بينها وتجميع نتائجها، وفى النهاية الوصول إلى معطيات تتيح للقيادة اتخاذ القرار الصحيح؛ الذى لم يعد يعتمد على المهارة الشخصية فقط للقادة فى إدارة العمليات، نتيجة توفر دعائم وحلول أولية معطاة من وسائل القيادة والسيطرة الآلية.

لهذا أصبحت الحواسب ذات القدرات العملاقة هى العمود الفقرى لمراكز القيادة والسيطرة الرئيسية؛ فى جيوش الدول الكبرى، وقد استوعبت هذا التطور الفذ دولا أخرى رغم كونها ليست من الدول الكبرى فى المجال العسكرى، لكنها تمتلك بنية علمية مناسبة، وأصبح منوط بالقيادات العسكرية أن تتماشى فى العلم العسكرى مع التكنولوجيا التى اقتحمت عالم القيادة.. نعم صارت من مؤهلات القائد العصرى قدرته على أستيعاب تقنيات لم تكن موجودة بتاتا منذ عقود قليلة.

هكذا شكلت الثورة التى شهدتها أنظمة القيادة والسيطرة أخيرا طفرة غير مسبوقة؛ مقارنة بأى مراحل سابقة خلال تطور الجيوش، بعد أن اقتضى الواقع التكنولوجى الاعتماد على الحواسب اعتمادا كليا فى الإعداد للمعركة وإدارتها من أجل معالجة الكم العارم من المعلومات المنهمرة بالغة الضخامة والتعقيد.

كنتيجة حتمية لاستخدام الحواسب وتنامى تواجدها فى كل مستويات البناء التنظيمى للقوات المسلحة العصرية استدعى هذا الوضع تلاحق التطوير المستمر لشبكات المعلومات والاتصالات العسكرية، تحديدا فيما يخص برامج ضبط المعلومات ودمجها، فى إطار توسيع ما يعرف تقنيا بعرض نطاق Bandwidth)) خطوط الاتصالات، مما تطلب نشر شبكة أقمار صناعية خاصة، تعمل على سرعة تحويل وتأمين المعلومات واستقبالها فى المحطات الأرضية.

فى مستويات الوحدات الفرعية وفى أحوال استثنائية الوحدات الفرعية الصغرى يتم استقبال المعلومات المشفرة بواسطة حواسب يدوية، يتم فك شفرتها ببطاقات خاصة، ومن ثم يعاد تعديل الأوامر من خلال الشبكة المحلية فى مواقع الاشتباك، ويعقب ذلك آليا تغذية عكسية تعيد بث معلومات الأوضاع التى استجدت تكتيكيا إلى المستوى الأعلى، بهذا يتمكن متلقى المعلومات والأوامر من طلب مزيد من التوضيحات أو المعلومات من خلال الشبكة دون الرجوع إلى طريقة التسلسل العسكري التقليدية.

تعددت شبكات القيادة والسيطرة، جزء منها يغطى أنشطة القوات البرية،وبيانات الاستطلاع، وجزء آخر يغطى مهام القوات الجوية، وقسم من هذه الشبكات يختص بأسلحة الدفاع الجوى من صواريخ ومدفعية ورادارات، وبالمثل قطع القوات البحرية،وأخيرا عناصر الإمداد الإدارى والصيانة، تتشابك كل هذه الشبكات فى تبادل للمعلومات بينها إذ تصب كلها فى شبكة مركزية لمراكز القيادة السيطرة،وهذا يسفر عن تعزيز دقة تنفيذ المهام، وزيادة سرعة تنفيذها، نتيجة ما يتوفر من اتاحة للمعلومات على جميع مستويات القيادات العسكرية، مع تحقيق التوافق فى الاستخدام المتزامن بين الأسلحة المختلفة.

نتيجة التطور المذهل فى مجالات الحرب الإلكترونية، حيث تتمثل إجراءات الهجوم الإلكترونى فى تنفيذ أعمال الإعاقة الإيجابية والسلبية، بما يتوفر لها من قدرة على تدمير الأنظمة، وخطوط الاتصال، ونتيجة لذلك برزت الأهمية القصوى لتأمين دوائر شبكات المعلومات ، وخطوط الاتصال المشفرة، وتعزيز الشبكات بمستوى عال من الإجراءات لمقاومة الإعاقة والتدمير الإلكترونى المضاد، وأيضا الفيروسات الحديثة القادرة على تخريب شبكات الحواسب.

استمرت مفاهيم وأساليب القيادة والسيطرة منذ بداية ظهورها مقتصرة على البعد العسكرى، تمارسها وتطورها الجيوش إلى أن تجاوزت مستويات الاتصال التقليدية وتحولت إلى الرقمنة.. عندها خرجت مراكز القيادة والسيطرة من عباءة الجيوش لتصبح عنصرا فاعلا فى الحياة المدنية أيضا.