وأدت النكسات المتتالية للجماعات الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط، وأيضا في ليبيا، والتي توجت بمقتل زعيم داعش أبوبكر البغدادي عام 2019 على يد القوات الأميركية، إلى بحث هذه الجماعات عن ملاذات آمنة، ومناطق بعيدة عن سطوة أسلحة الغرب ومخابراته لإعادة إحياء حلم "دولة الخلافة".

وكانت منطقة "أزواد" شمال مالي، قد أصبحت مهيأة إلى درجة كبيرة لاستيعاب طموحات هذه الجماعات، وذلك منذ ركوبهم لموجة ما عرف بثورة الطوارق التي أعلنوا فيها استقلال إقليم أزواد عام 2012، الاستقلال الذي أدى إعلانه إلى سيطرة الجبهات المسلحة للطوارق على الإقليم بالكامل، لكن في حفلة عرس كانت لها الجماعات الإرهابية بالمرصاد، بعد أن دخلت هذه الجماعات حواضر الإقليم جنبا إلى جنب مع مسلحي الحركات الأزوادية، ولتفرض نفسها شريكا في التركة.

أدت هذه النتيجة التي وأدت أحلام الأزواديين إلى قرع جرس الإنذار للعالم مما ستؤول إليه هذه الصحراء، بعد أن فرضت فيها الحركات المسلحة سطوتها بعيدا عن يد الدولة المالية التي أصبحت مهددة في سيادتها.

ورغم ما اتسمت به سنوات فرنسا العشر في مالي، من جدل حول أخلاقيات التدخل الفرنسي في إفريقيا، وفرض الوصاية على بلدان يفترض أنها بلغت سن الرشد بعد الاستقلال، فإنها حالت دون فوضى أكبر في المنطقة وإن لم تنجح في إيجاد حلول سياسية وأمنية تساعد على استقرار المنطقة أو نزع الفتيل عنها.

وبعد عدة محاولات يائسة من فرنسا وحلفائها في الغرب للتوسط بين طرفي النزاع في مالي (باماكو+الحركات المسلحة في أزواد)، وبعد انعدام أي آفاق لتطبيق أي اتفاق سلام بينهما، وبعد سلسلة من الانقلابات العسكرية (ثلاثة انقلابات عسكرية منذ عام 2012)، رأت باريس أن جهودها في استقرار المنطقة باءت بالفشل، وأن عليها الرحيل والاكتفاء بالمراقبة والتقارب مع حكومات المنطقة.

إذ ذاك، تحركت باماكو سريعا، لعقد تحالف جديد مع قوات فاغنر الروسية، لتحل محل القوات الفرنسية، ولتقوم بحماية الدولة الهشة من أي طموحات محتملة للجماعات المسلحة في أزواد، إن كانت متطرفة أو راديكالية، وقد أدت الشراكة بالفعل إلى حماية النظام، وإعادة تسليحه وإبعاد أي تهديد عنه، بعد أن تمكنت فاغنر من فرض نفسها شريكا تجاريا عبر التنقيب عن الذهب ومصادر الطاقة.

في الجانب الآخر، أعلنت ثلاث حركات أزوادية، كانت منضوية تحت لواء "تنسيقية حركات أزواد (CMA)" الاندماج في كيان سياسي وعسكري واحد، وإنشاء لجنة فنية مسؤولة عن استكمال إجراءات عملية الاندماج.

وأكدت الحركات أن اندماجها في كيان واحد جاء إدراكا منها لتدهور الوضع الأمني بأزواد، وأخذا في الاعتبار لإرادة سكان أزواد ورغبتهم في توحيد جهودهم لمواجهة جميع التحديات.

وفي الوسط من كل ما سبق، وبعد انسحاب لجان دولية بعد انسحاب فرنسا التي كانت تقود الجهود الأوروبية للسلام، تطل في المشهد بين حين وآخر اتفاقيات السلام، وآخرها الاتفاقية التي رعتها الجزائر عام 2015 بتفويض ومباركة دولية بين الفرقاء، لمكانتها السياسية وسطوتها على جماعات الطوارق من جهة، وعلاقاتها الوطيدة مع باماكو من جهة أخرى.

والحقيقة أن الجزائر، وإن لم تنجح وساطاتها في إنجاز أي اتفاق سلام بين الحكومات المالية وبين الأزواديين من جهة، إلا أن وجودها في المشهد يعد مهما في أعين المراقبين، وإن كانت عليه تحفظات من قبل الأزواد، بعد إعلان تبون صراحة مطلع أبريل الماضي أن الجزائر لن تسمح بأي مشروع لتقسيم شمال مالي.

فللجزائر قدرة دبلوماسية فائقة تستخدمها بين حين وآخر، إذ بمقدورها تهدئة أي نوع من التأجيج بين طرفي النزاع، فضلا عن كونها متنفسا كبيرا وباحة مفتوحة للطوارق في شمال مالي، إن كانوا لاجئين أو مهاجرين أو باحثين عن دراسة وعمل، عبر فتح المجال الحدودي لهم للتواصل والعيش جنبا إلى جنب مع إخوتهم في الجنوب الجزائري الذي هاجرت إليه بالفعل آلاف من أسر الطوارق في مالي طوال العقود الماضية التي مارس فيها النظام المالي إبادات جماعية ضدهم.

وأدت القلاقل الأمنية في مالي والتي اندلعت شرارتها الأخيرة منذ عام 1990 إلى ردة فعل عنيفة من قبل الأنظمة الحاكمة في باماكو ضد سكان شمال مالي من العرب والطوارق.

وقد أدى النزاع المسلح بين الطرفين منذ ذلك التاريخ، إلى تهجير معظم سكان أزواد وهروبهم إلى دول الجوار (موريتانيا، الجزائر، النيجر، بوركينافاسو)، فضلا عن آخرين هاجروا إلى ليبيا والمملكة العربية السعودية.. لا يزال معظمهم يرقب بوادر أي سلام أو استقرار للعودة.

إرهاصات الأزمة

فتحت الفوضى التي أطلقها نزاع أزواد منذ بداياته في التسعينيات الباب واسعا في أكبر صحراء بالعالم، أمام فوضى عجز العالم عن احتوائها، وبدأت بوادرها في العام 2002 عند وصول الرئيس المالي الراحل توماني توري إلى سدة السلطة، حيث قام بمحاولات حثيثة لشيطنة ثورة أزواد، بعد اتهام الثوار بأنهم جماعات إرهابية تشتغل في تجارة البشر والمخدرات، وحاول تعزيز تلك المزاعم بعد عدة عمليات لاختطاف الرهائن الغربيين، بدأت منذ عام 2003.

وقدرت وزارة المالية الأميركية في العام 2014، أن أوروبا دفعت 165 مليون دولار للجماعات الإرهابية ما بين 2008 و2013 فقط، لافتكاك الرهائن في تلك العمليات التي أدت إلى الدفع بالمزيد من الإرهابيين إلى الصحراء، بعد تأكدهم من فشل محاولات الملاحقة التي يزعم الرئيس توماني أن جيشه يقوم بها.

وقد أدت سنوات توماني إلى ازدهار الجماعات الإرهابية، ودفعت بالمئات منهم إلى الصحراء، لكن مساعيه في إلصاق الإرهاب بالأزواديين فشلت بعد اعتراف الأميركيين والفرنسيين بالتنظيمات السياسية والعسكرية في أزواد كشريك يجب اعتباره في أي حلول لاستقرار المنطقة.

رحل توماني توري عام 2012 بعد انقلاب عسكري، واشتداد المعارك في الشمال وبعد نجاح العمليات العسكرية للجبهات المسلحة هناك، لكن فترته خلفت إرثا لم يكن من الممكن السيطرة عليه ولا إصلاحه حتى كتابة هذه السطور.

اليوم، أصبحت الأرض مهيأة أكثر من أي وقت مضى، بعد رحيل الفرنسيين، إذ تداعت الجماعات المسلحة إلى الصحراء، وقدِمت تشكيلات كاملة منها من شتى دول الساحل والصحراء مكونة فسيفساء تصعب السيطرة عليها أو تعقبها أو محاربتها، وأصبح المجلس العسكري الحاكم في مالي الآن منشغلا بتأمين نفسه واقتصاده عبر فاغنر الروسية، وماضيا في التسليح وتأجيل أي عملية انتخابية أو تنفيذ اتفاقية سلام مع الأزواد.

وانشغل الأزواديون بدورهم بالدخول في اتحادات وتحالفات واسعة لمواجهة أي تهديد قد يواجههم من قبل باماكو، أو التجمعات المتطرفة التي استباحت الصحراء.

وعلى الأرض، يهمين تحالف أزواد على منطقة كيدال في الشمال التي اتخذها عاصمة له، وبعض المناطق والجيوب الصغيرة، بينما تهيمن سلطات باماكو على العاصمة والأقاليم الجنوبية، وسط توتر متصاعد من الضربات شبه اليومية للتنظيمات الإرهابية في بقية البلاد.

ومنذ منتصف العام الماضي، دخلت كل من القاعدة التي تعددت أسماؤها، والمكونة من عناصر يقودهم عرب من شمال إفريقيا وأحيانا بعض الطوارق، وداعش التي تشكلت من عناصر مهاجرة معظمهم من جنوب الصحراء في نزال وحرب ضروس ضد بعضهما لتأكيد سيادتهما على الصحراء.

الحرب بين التنظيمين شملت مناطق واسعة شمالي مالي، نحو الحدود الموريتانية والجزائرية، وجنوبا نحو بوركينافاسو والنيجر. وقد أدت هذه الحرب إلى إبادة وتهجير آلاف السكان الأزواد الذين تدفقوا إلى النيجر وبوركينافاسو، بعد آلاف نزحوا في الأعوام الماضية نحو موريتانيا والجزائر نتيجة اعتداءات الجيش المالي.

وإلى أن تنجح الجزائر التي أصبحت وسيط سلام وحيدا منذ ثلاثة عقود في جمع أطراف النزاع وممارسة ضغط حقيقي عليهم لتنفيذ حد أدنى من اتفاق سلام، يقضي بدمج المسلحين الأزواد وتعاونهم مع الجيش المالي لدحر الإرهاب، ستبقى الصحراء مستباحة، وستبقى وجهة مفضلة للجماعات الإرهابية، ومجموعات أخرى من تجار البشر والمخدرات.

والواقع أن هذه الآمال لا تزال بعيدة الآن بعد تفجر الحرب في السودان، التي رفعت سقف طموحات الجماعات المسلحة التي تتطلع إلى مجال أوسع لممارسة الفوضى تبدأ حدوده من السودان على البحر الأحمر وتنتهي بالسنغال على سواحل المحيط الأطلسي غربا.