لزيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق التي اختتمت الجمعة مرامي تختلف عن تلك التي قام بها رؤساء سابقون. الزيارة التي استغرقت يومين هي الأولى لرئيس إيراني منذ 13 عاما حين قام بها الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد.
زار الرئيس السوري بشار الأسد طهران مرتين في السنوات الماضية، الأولى عام 2019 في عهد الرئيس السابق حسن روحاني، والثانية العام الماضي في عهد الرئيس الحالي رئيسي. ولطالما كان لكل قمّة سورية إيرانية ظروف وتوقيت بحيث تطلق كل زيارة مواقف تدقّ أبواب الخصوم، لكنها أيضا تطرق على نوافذ الحليف الروسي أو شريك طهران التركي داخل آلية أستانا.
تأتي زيارة رئيسي داخل سياقين. الأول الاتفاق السعودي الإيراني الذي أُبرم برعاية الصين في بكين في 10 مارس الماضي. والثاني تدافع الجهود والأعراض لرأب الصدع بين الدول العربية ودمشق وتطبيع العلاقات معها وصولا إلى إعادتها إلى مقعدها داخل جامعة الدول العربية. ولولا هذه السياقات لكانت زيارة الرئيس الإيراني إلى سوريا رتيبة تقليدية لا تحتاج إلى تحليل.
ولطالما كانت إيران ونفوذها في سوريا حافزا لقطيعة عربية مع دمشق. ويكاد يكون هذا السبب من دون غيره قاعدة لمواقف عواصم عربية قاطعت النظام في سوريا وفرضت مناخاً عربيا في هذا الاتجاه. ولطالما أيضاً تمّ تفسير التقارب العربي الراهن والمتسارع مع دمشق على أنه مقاربة قد تكون تجريبية تفترض أن "احتضان" العرب لدمشق من شأنه تقليص الوجود الإيراني في هذا البلد وارتهانه لقرار طهران.
قام خلاف العرب مع إيران أساسا على قضية التدخلات الإيرانية في شؤون الدول العربية. اعتبرت عواصم المنطقة أن انتشار الميليشيات التابعة لطهران في سوريا والعراق ولبنان واليمن هو أمر يشكّل خطرا على أمن المنطقة الاستراتيجي واعتبروه أيضاً "مزعزعا للاستقرار" وفق ما استخدم في البيانات والمواقف الرسمية. ويكاد هذا الملف يكون الأكثر حساسية وإلحاحا وأكثر أهمية من ملفي برنامج إيران النووي وبرنامجها للصواريخ الباليستية.
غير أن الاتفاق السعودي الإيراني أسّس للغة جديدة في تخاطب الرياض وطهران وحضّر كل المنطقة لمرحلة أخرى في علاقات المنطقة مع إيران. وبدا أن طهران التي أقبلت على توقيع الاتفاق في بكين غيّرت خطابها وعبّرت عن مضيّها قدماً في تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وباتت أكثر اعتدالا وتوازنا في مقاربتها لبلدان عربية لطالما اعتبرتها قبل سنوات ساقطة داخل نفوذها الإقليمي الكبير.
تودّ طهران ودمشق التأكيد على أنهما في حلف استراتيجي طويل الأمد لن يغيره اتفاق بكين أو التقارب العربي مع دمشق. وتكاد العاصمتان توحيان أن هذا الحلف يستطيع التعايش مع المستجدّ العربي داخل سوريا وهو لا يتعارض مع نصوص وروحية ما توصل له السعوديون والإيرانيون من ثوابت وتفاهمات أشرفت الصين على ولادتها. ولئن حرص الرئيسان، السوري والإيراني، على انتقاء عباراتهما مسايرة للتحولات الوديّة الإقليمية في المنطقة، غير أنهما قدما واجهات تؤكد على الثابت في سياق ما هو متحوّل.
تأتي زيارة رئيسي لدمشق في وقت بات مطلوبا من العاصمة السورية توفير قواعد جديدة تسهّل دفع إيقاعات التقارب العربي ودينامياته. كان وزراء عرب قد زاروا العاصمة السورية في إطار التضامن مع سوريا بعد الزلزال الذي ضرب أجزاء منها. وكان زارها لنفس المناسبة وفد برلماني عربي متعدد. غير أن الأمور بدأت ترتقي من الإنساني إلى السياسي في الزيارة التي قام بها وزير الخارجية فيصل المقداد إلى جدة في 12 أبريل الماضي والزيارة التي قام بها نظيره السعودي فيصل بن فرحان إلى دمشق بعد أسبوع في 19 من نفس الشهر.
توسّعت مساحة هذا الحراك بالاجتماع الاستشاري الذي استضافته السعودية في جدة لوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي إضافة إلى نظرائهم من مصر والعراق والأردن في 15 أبريل. ثم عقدت نسخة ثانية لنفس الاجتماع برعاية الأردن في عمان في الأول من مايو الجاري ضمّ هذه المرة وزير الخارجية السوري. والواضح أن العرب يتحدثون مع دمشق ويحثونها على تقديم ما يمكنه تشجيع التطبيع الكامل لعلاقاتهم مع دمشق.
ولئن تقوم مبادرة الأردن على صيغة "خطوة مقابل خطوة"، فإن عمّان تتولى توسيع مساحة التشاور مع الدول العربية بغية بناء قاعدة تفاهمات لتحقيق ذلك. تولى وزير الخارجية الأردني في 2 مايو، أي في اليوم التالي لاجتماع عمّان التشاوري مهاتفة نظرائه في قطر والإمارات والبحرين والكويت وسلطنة عمان والمغرب ولبنان وتونس والجزائر.
تحت سقف بكين وجدة وعمّان وتواصل الرياض ودمشق تجري زيارة رئيسي لحليفه في سوريا، لكنها أيضا تجري لتقارب بشكل ما رعاية موسكو لتطبيع بين أنقرة ودمشق. تقوم علاقة البلدين على "معمودية النار" ومفاصل البقاء التي تعرّض لها نظامي البلدين وفق ما يلمّح الرئيس السوري. يذكّر الأسد بوقوف دمشق إلى جانب طهران في الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) وبوقوف إيران دفاعاً عن نظامه منذ بدء الحرب في سوريا عام 2011. يبارك رئيسي بالمقابل "الانتصارات الكبيرة التي حققتها سوريا حكومة وشعبا" (بغضّ النظر عن هجمات إسرائيل الروتينية)، لكنه، وهنا بيت القصيد، يؤكد من خلال خطاب الانتصار أن "العلاقة بين البلدين لن تتأثر بالتغيرات والظروف في العالم والمنطقة".
ستتأثر هذه العلاقات موضوعيا ومنطقيا برياح التحوّلات التي تهبّ على العالم والإقليم. قد لا يكون الأمر آنيا، لكن بديهية ديناميات بكين وما سيستجد في أوكرانيا سيفرض معايير وقواعد جديد ويخلط الأوراق ليعاد ترتيبها وفق أبجديات أخرى. وإذا ما يؤكد الطرفان التمسّك بثابت قديم فإنهما مضطران في مرحلة ما إلى مغادرة ما بات متقادما ويحتاج إلى تحديث يلاقي ما يتسرّب من كل بيانات العواصم العربية واجتماعاتها الاستشارية من حاجة سوريا إلى حلّ من البوابة الإنسانية سيحتج حكما إلى تسوية سياسية ولو بعد حين.