إذ أن الركون إلى مثل تلك التفسيرات والنظريات يجعل المرء عرضه لكي "يلدغ من جحر" مرات ومرات لأنه لم يعمل العقل في فهم اللدغة الأولى واعتبرها مؤامرة وارتاح.

لكن أن تركن دولة، بكل قوتها وأجهزتها وامكانياتها، لتفسير نظرية المؤامرة فالكارثة أكبر وأخطر بكثير. ذلك ما حدث من رد فعل أولي على تسريبات الوثائق السرية وعالية السرية لدى وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) ووكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) على الانترنت. كانت ردود الفعل الأولى، حتى قبل التصريحات الرسمية أن روسيا وراء "اختراق" البيت الأبسض والأجهزة الأميركية وتسريب تلك الوثائق التي تركز على أدق تفاصيل القوات الأوكرانية والروسية في الحرب هناك، ومعها بعض وثائق أخرى تكسف تجسس الأميركيين على قادة دول "حليفة".

حتى أن البعض ذهب إلى ربط اسقاط الروس طائرة تجسس أميركية قرب حدودها بذلك الاختراق والتسريب. كان ذلك رد فعل متوقع، فالأميركيون كلما اصابتهم مصيبة حتى لو من صنع ايديهم اتهموا "مثلث شر" خارجي. وغالبا ما يكون الاتهام لا علاقة له بالحدث لكنه تبرير وقائي وربما لمراكة أسباب لتحرك ما في المستقبل قد لا يكون قانونيا ولا شرعيا ضد من يتهمون. من قبل كان مثلث الشر عند الأميركان: العراق وغيران وكوريا الشمالية. والآن لعله: الصين وروسيا وكوريا الشمالية. وبعد غد لا يستبعد أن يكون زيمبابوي وماكرونيزيا وكوريا الشمالية!!

أما رد فعل الروس فكان أقرب لتفسير مؤامرة ايضا، إذ اعتبرت موسكو أن تلك التسريبات قد تكون "تضليلا متعمدا" من الأميركيين لتوريط القوات الروسية في أوكرانيا. وبعيدا عن التصريحات الرسمية، التي قد لا تعكس ما حدث ويحدث فعلا، وليس ذلك بطريقة نظرية المؤامرة إنما لأن هناك حرب بالفعل وكما يقولون "الحرب خدعة". لكن من يخدع من؟

صحيح أن الروس مشهورون بأن لديهم متخصصون في الاختراق الاليكتروني، وأغلب هؤلاء إما هواة بارعون أو ربما تستخدمهم أجهزة رسمية. لكن ذلك لا يعني أن الأميركيين ملائكة و"لا يفعلون العيبة"، فهم وغيرهم أيضا لديهم من هو أبرع في الاختراق والقرصنة بل ويفاخرون بذلك علنا. أو ليس أغلب مليارديرات التكنولوجيا في أميركا بدءوا كشباب عصاميين بكمبيوتر تحت السرير؟! وليس للتكنولوجيا حدود، وكلما تعقدت كلما أصبح اختراقها متعة للقراصنة. ثم إن ذلك "بزنس" هائل لشركات أنظمة الحماية والوقاية من الاختراق والقرصنة، وكلما تطورت سبل الحماية تطورت طرق الاختراق وزادت مبيعات برامج مضادة للفيروسات.

رغم ذلك، يتوقع من أقوى دولة في العالم مثل أميركا أن تكون أنظمة أجهوتهال الحساسة كسي آي إيه والبنتاغون والبيت الأبيض محكمة التأمين ومستعصية على الاختراق. كما يتوقع من بلد كروسيا لديها إرث عسكري وامكانيات تجسس واستطلاع بمكونات اليكترونية أن تكون قادرة على معرفة ما يتعلق بقواتها في أوكرانيا من مجرد اتهام الآخرين بتضليلها.

من الشطط، أكثر من تفسير المؤامرة، أن يكون الروس هم من اخترقوا الأميركان وسربوا تلك الوثائق التي تظهر منذ بداية الشهر الماضي على منصة محادثات على الانترنت يرتادها المولعون بالألعاب الاليكترونية. لأنها لو فعلت ذلك، ولتلك الوثائق المسربة قيمة عسكرية فعلا تتعلق بحرب أوكرانيا، ما كان من اخترق للحصول عليها نشرها على الانترنت بل المنطقي أن يحصل عليها ويستفيد منها ولا ينبه أحدا بأنه فعل.

المنطقي ايضا هو ما يجريه البنتاغون الآن من تحقيقات لمعرفة كيف حدث الاختراق والتسريب. وإن كان للمرء أن يشك في أن يأخذ الأمر كل هذا الوقت والجهد، فالأجهزة الأميركية التي كانت تدعي قبل عقدين قدرتها على معرفة "ماركة الملابس الداخلية" لبعض قادة العالم وزعمائه لت يكون صعبا عليه التتبع العكسي لمسار الاليكتروني من المنشور على منصة المحادثات والوصول إلى المصدر.

لكن ذلك امر ربما لا تكشف حقيقته اطلاقا، حتى لو وصلت التحقيقات إلى نتيجة. فالأرجح أن من اخترق وسرب شخص "من الداخل"، ليس بالضرورة جاسوسا ولا مارقا. هذا طبعا إذا استبعدنا كل نظريات المؤامرة. ربما لا يحتاج من سرب إلى أن يكون من بين من لهم صلاحية الوصول إلى تلك الوثائق، فغالبا في حالة المعلومات البسرية يكون عدد هؤلاء محدودا جدا. كما أن التصريح الأمني بمستوى عالي يكون محاطا أيضا بضمانات اليكترونية تسهل معرفة اي اختراق.

لا يمكن إغفال حقيقة أن نصف الأميركيين، وربما أكثر، يعارضون موقف البيت الأبيض الداعم بقوة لأوكرانيا في الصراع وينتقدون انفاق مئات المليارات على الأسلحة والذخيرة لكييف. ومن بين هؤلاء متشددون في مواقفهم بما يجعلهم مستعدون لفعل اي شيء لوقف هذا الدعم الأميركي الذي يرون ان بلادهم أحق به من باب "اللي يحتاجه البيت يحرم على الجامع".

قد يكون أحد هؤلاء ممن يعملون في داخل الأجهزة التي تسربت منها الوثائق، وقد يكون قادرا على اختراق تلك الأجهزة أو أن يستعين بقرصان ماهر يخترقها. وهدفه في النهاية إثارة الرأي العام ضد الدعم الأميركي لأوكرانيا لذا نشرها على الانترنت. ويبقى الاحتمال الأخير أن أحد قراصنة الاختراق، وبعضهم مصاب بجنون عظمة من نوع خاص، اخترق وسرب بلا هدف سوى أن يثبت لنفسه قبل الآخرين أنه قادر على الاختراق. إنه حقا عالم مخترق!