ويتضح من الكتاب أن العبادي ينسب النصر على داعش لنفسه، أو يحاول ذلك، بل إن مقدم الكتاب، الإنجليزي براين بريفاتي، سمّاه "تشرشل العراق" وهذا هو عنوان مقدمته للكتاب!

وقال بريفاتي إن العبادي يشبه تشرشل حتى في خسارته في الانتخابات عام 2018، فتشرشل خسر في الانتخابات عام 1945 بعد الحرب التي انتصر فيها على دول المحور! (النصر المستحيل، ص13).

ويعزو بريفاتي انتصار العراق على داعش، (دون أن يقاتل بالأسلوب السوري)، إلى "رجل واحد هو حيدر العبادي"! (ص12).  ويتساءل بريفاتي "ببراءة"، "هل صُنع القائدُ العظيم من الظروف التي واجهها، أم أنه قادر على التعامل مع تلك الظروف لأنه عظيم"؟ (ص13). بعبارة أخرى، هو عظيم في كل الأحوال، والاختلاف هو حول الأسباب التي جعلته عظيما!

ويبقى بريفاتي متسائلا: "هل سيحظى العراقيون بتشرشل آخر عندما تأتي الساعة؟ وهل سيعودون مرة أخرى إلى القائد الذي صاغ بالفعل الوحدة التي حققت النصر"؟ ويختتم بالقول إن "فكرة العراق كانت تذبُل أمام أعيننا حتى وصل الدكتور العبادي إلى السلطة"! (ص18).

ولأنني مهتم بحياة وإنجازات ونستون تشرشل، فلا أجد وجها للمقارنة بين تشرشل والعبادي مطلقا، وحتى خسارته للانتخابات بعد النصر الذي حققه في الحرب العالمية الثانية، لا تشبه خسارة العبادي الذي خاض معركة أمنية داخلية، ما كان العراق ليضطر إلى خوضها أبدا، لو كان العبادي ورفاقه في قيادة حزب الدعوة، قد أدوا دورهم في توجيه زعيمهم المالكي، ونقد سياساته وترشيد آرائه، بدلا من تضليله باتباعه وتأييده دون أدنى مساءلة، حتى عندما كان واضحا أن سياساته تثير الانقسام والكراهية بين شرائح المجتمع العراقي المختلفة.

لم نسمع أحدا من قيادة حزب الدعوة، ينتقد المالكي عندما قسَّم العراقيين إلى "أتباع يزيد وأتباع الحسين"، في خطاب ألقاه في كربلاء في مناسبة دينية، ولم نسمع أيَّ نقد من حيدر العبادي لتطييف مؤسسات الدولة، وفرض الطقوس الشيعية عليها، وكأنه لا يوجد في العراق غير الجماعات المتشدقة بالدين، وليس هناك طوائف وقوميات وأديان وتوجهات اجتماعية وسياسية وأنماط ثقافية أخرى.

إن فرض تلك الطقوس والشعارات على مؤسسات الدولة، قد أشعر الآخرين، وهم الغالبية، بالتهميش، حتى من الشيعة أنفسهم، الذين يعتقد معظمهم بأنها تقاليد وطقوس يمكن أن تُمارَس ضمن حيز المجتمع المدني، وليس ضمن أجهزة الدولة ومؤسساتها.

لقد شعر الأكراد بالرعب عندما دخل الجيش العراقي إلى كردستان عام 2016، وكانت الدبابات تحمل أعلاما سوداء، ما دفع رئيس الإقليم، مسعود بارزاني، إلى الطلب من العبادي، عبر رئيس الديوان، فؤاد حسين، بأن يأمر الجنود بإنزال هذه الأعلام. لكن العبادي رفض الطلب قائلا "لا يمكنني فعل ذلك، إنها مهمة جدا لهم"، (ص233).

تلك الطقوس والأعلام والشعارات واللافتات والتسجيلات الصاخبة وإغلاق الشوارع ونصب السرادق فيها وطهي الطعام على الأرصفة، جعلت غالبية العراقيين يشعرون أن الدولة مختطفة من قبل مجموعة معينة، ولا مكان لهم فيها، بل أن مؤسساتها الأمنية والعسكرية صارت مرتبطة بتلك الفئة، ولم تعد لكل العراقيين.

لقد خسر العبادي في الانتخابات لسوء التخطيط وهيمنة الأوهام على تفكيره، أما تشرشل فقد خسر في الانتخابات لأن الشعب البريطاني، الذي يتميز بالوعي بالمصلحة الوطنية، رأى أن القائد الذي نجح في إدارة الحرب، لن ينجح في إعمار ما دمرته الحرب، فانتخب زعيم حزب العمال، كلَمَنت آتلي، رئيسا للوزراء كي يتولى إعمار البلاد وتنمية الاقتصاد، وقد قام بذلك بالفعل، فأرسى أسس دولة الرفاهية، بتأسيس خدمة الصحة الوطنية ونظام الضمان الاجتماعي.

وقد عاد تشرشل إلى رئاسة الوزراء عام 1951، وبقي حتى استقالته عام 1955، لأسباب صحية ناتجة عن تقدمه في السن، علما أنه بقي نائبا في مجلس العموم حتى عام 1964، ومات في عام 1965.

لا شك أن تشرشل شخصية مرموقة ومتعددة المواهب. لقد برع في السياسة والعلوم العسكرية والعلاقات الدولية والأدب، ونال جائزة نوبل في الآداب عام 1953 "لإجادته وصف الأحداث والحقائق التأريخية، وخطاباته اللامعة في الدفاع عن القيم الإنسانية العليا" حسب بيان لجنة جائزة نوبل.

وقد تميز بشجاعة فائقة وذكاء استثنائي، واتضح ذلك في أجوبته الحاذقة على الأسئلة المفاجئة، وقد كُتبت دراساتٌ عديدة عن حياته وشخصيته النادرة ومآثره الأدبية ومواقفه السياسية. خاض حربين عالميتين وانتصر فيهما. كان في الأولى قائدا للأسطول البريطاني، وفي الثانية رئيسا للوزراء، كما خاض حروبا عديدة منها الحرب الإنجليزية-السودانية، وحرب البور في جنوب أفريقيا، التي أُسِر فيها، وحارب في كوبا والهند، وكان مقداما في خوض الحروب وسبّاقا إلى المشاركة في المعارك الخطيرة.

كان متمرسا في الفنون العسكرية، إذ تخرج عام 1895 من أرفع أكاديمية عسكرية في بريطانيا، وهي أكاديمية ساندهيرست الملكية، التي تأسست عام 1801. كان مبدأ الخدمة العامة أساسيا في حياته، ولم يتردد في تولي أي مَهَمَّة يرى فيها خدمة لبلده. تَنَقَّل بين المناصب العليا والدنيا دون حرج. شجاعتُه الأسطورية دفعته لمشاركة رجال الشرطة في المعارك الخطيرة مع العصابات عندما كان وزيرا للداخلية. وكان يحارب مع جنوده في الدردنيل، وعندما انتكست المهمة، استقال من منصبه، وعاد إلى صفوف الجيش كضابط عادي، بعد أن كان وزيرا وقائدا.

قد يقول قائل إن العبادي لم يقارن نفسه بتشرشل، لكن الحقيقة أن العبادي كان سعيدا بهذه المقارنة، فوضعها في مقدمة كتابه، رغم أنها مبالغة فاقعة، ولا أقول هذا انتقاصا من العبادي، لكنها معيبة على بريفاتي، الذي يعلم، كأستاذ في التأريخ، أن العبادي لا يشبه تشرشل.

وإذا ما تجاوزنا الأخطاء الأسلوبية والنحوية التي (يزخر) بها "النصر المستحيل"، الذي يبدو أنه مترجم عن اللغة الإنجليزية، وأن الترجمة ضعيفة جدا، إذ إن العديد من الجمل مهلهلة التراكيب، وبعضها غير مفيدة، فإن العبادي لم يُجِب على الأسئلة المهمة حول استيلاء داعش على ثلاث محافظات، تلك الكارثة التي كبدت العراق خسائر فادحة في الأرواح والأموال.

كيف سقط ثلث العراق خلال فترة قصيرة تحت سيطرة تنظيم إرهابي منبوذ عالميا، لا يتجاوز عدد مسلحيه بضعة آلاف؟ ومن المسؤول عن هذه الكارثة الوطنية؟ ولماذا لم يكشف العبادي خلال أربع سنوات في السلطة عن تفاصيل تلك الهزيمة المروعة التي لحقت بالعراق؟ ولماذا لم يُفعِّل توصيات التحقيق البرلماني بهذا الخصوص، الذي وضع اللوم في الهزيمة على نوري المالكي و35 من قادة الجيش؟ ولماذا لم يُحِل المسؤولين عن تلك الهزيمة إلى القضاء لمحاكمتهم؟

قرأتُ الكتاب بتمعن، وأشَّرت بعض النقاط التي رأيت أنها تسحتق التوقف عندها، ثم أعدت قراءته كي أتأكد أنني فهمتُ، فهما كاملا، ما دوَّنه العبادي، الذي أعرفه شخصيا منذ ثلاثة عقود ونصف. الكتاب يفتقر إلى التماسك والمعلومات والأرقام والأسماء، بل إنه تجنب ذكر حتى اسم المالكي، سوى مرة واحدة (ص90) علما أنه ناصبه العداء، ووضع العصي في عجلته وتسبب في إقالة وزيري دفاعه وماليته أثناء الحرب على داعش. والأغرب أن العبادي، حتى بعد انتهاء ولايته وضياع فرصته في تولي السلطة مرة أخرى، بقي يخشى المالكي ويمتدحه كما فعل في مقابلة أخيرة له مع BBC.

يزخر الكتاب بالبديهيات والكلام العام الذي يعرفه القاصي والداني، ولم يقدم معلومات جديدة، باستثناء بعض القصص حول تحركاته وكيف أن سائقه ضل طريقه فذهب إلى الخطوط الأمامية للقتال في جرف الصخر (ص128)، وقد فعلها السائق مرة أخرى في مكان آخر.

أهم معلومة ذكرها هي رسالة المرجع السيستاني إلى قيادة حزب الدعوة، التي نصحت "باختيار رئيس جديد للوزراء، يحظى بقبول وطني واسع ويتمكن من العمل سوية مع القيادات السياسية لبقية المكونات لإنقاذ البلد من مخاطر الإرهاب والحرب الطائفية والتقسيم"، وأحسب أنه ذكرها لأنها تخدمه شخصيا.

لم ينتقد العبادي نفسه، ولم يؤشر على خطأ ارتكبه، لكنه في معرض سرده للأحداث كشف العديد من خفايا شخصيته. بدأ كتابه بسرد أحداث حلم. فقد رأى في المنام، حينما كان في سن 14، أن بغداد تتعرض للقصف بطائرات مقاتلة كانت تهاجم المباني المهمة، وأن جنودا بملابس خضراء (لون غريب على العسكر، لكنه مألوف في الطقوس الشيعية!) يطلقون النيران من بنادقهم! وعندما استيقظ سرد القصة لأهله.

لكن المفارقة أن انقلابا عسكريا بقيادة عارف عبد الرزاق قد وقع فعلا في اليوم التالي للحلم، وقد شهد العبادي الطائرات تقصف القصر الجمهوري عندما كان مع والده في مسبح قرب القصر، فاضطرا للفرار بسيارة والده إلى بيتهما في الكرادة، وواجهتما في الطريق دبابات فتحت النار عليهما، لكنهما نجيا ووصلا المنزل بسلام!

وبغض النظر عن غرابة هذه القصة، وعدم تعلقها بـ"النصر المستحيل"، فإن سردها في كتاب جِدِّي، يفترض أنه يقدم معلومات للشعب عن المعركة مع تنظيم داعش، يشير إلى أن الرجل يميل إلى الإيمان بالخرافات والمعجزات.

وما عزز هذه النزعة الغيبية عنده، على ما يبدو، هو سهولة تحقيقه مكاسب شخصية عديدة، من خروجه من العراق للدراسة في بريطانيا، ونيله شهادة الدكتوراه في الهندسة، إلى اختياره عضوا في قيادة حزب الدعوة عام 1979، وهو بعمر 27 عاما، إلى تعيينه وزيرا للاتصالات، ثم توليه رئاسة اللجنتين البرلمانيتين، الاقتصادية والمالية، ونيابة رئاسة البرلمان، وأخيرا رئاسة الوزراء.

يفتخر العبادي في العديد من مقابلاته التلفزيونية بأنه لم يهتم للإعلام، متوهما بأن العالم سيتعرف على مآثره ومزاياه ومنجزاته دون أن يسعى شخصيا إلى تعريف نفسه والإخبار عن إنجازاته!

كما يفتخر بأنه قرر دخول الانتخابات في اللحظة الأخيرة عام 2018، أي أنه لم يستعد لها، لكنه مع ذلك توقع أن يفوز فيها! لم يختَر الأشخاص الذين تحالف معهم بعناية، فتحالف مع خصومه، الذين ظن لسبب ما بأنهم حلفاؤه.

أتذكر أنني شاهدت أحد حلفائه ينتقده بشدة في خطاب نقلته إحدى وسائل الإعلام، وكان ذلك قبل الانتخابات، فأخبرته بالموضوع، متسائلا إن كان هذا الشخص ما زال في قائمته الانتخابية، ففوجئ بالخبر، وطلب مني أن أرسل له الفيديو، وليس من طاقمه السياسي! أرسلت الفيديو له، لكنه مع ذلك أبقاه في قائمته. وبعد فوزه في الانتخابات، هاجمه بقوة، وكان سببا رئيسيا في حرمانه من الولاية الثانية.

أوكل إدارة حملته الانتخابية إلى أشخاص لا خبرة لهم بإدارة الحملات الانتخابية، بل لا يمتلك بعضهم القدرة على إقناع البسطاء، متوهما بأنهم سيقودونه إلى فوز مؤزر لأنهم مخلصون له. وكانت النتيجة أن قائمته جاءت ثالثة، بـ42 مقعدا، ثم انشطرت فور إعلان النتائج، وتحالف نصفها مع خصومه، ما يعني أن "حلفاءه" كانوا يعملون ضده منذ البداية، لكنهم انقلبوا عليه في الوقت المناسب!

ولأنه حقق نصرا "مستحيلا" على داعش، فإنه ربما اعتقد بأنه سيفوز فوزا "مستحيلا" في الانتخابات! وللحديث بقية.