كان الرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون يرى أن الرئيس يجب أن يتمتع بهيبة واحترام، حتى وإن ارتكب مخالفة أثناء ولايته. وقد انتفع نيكسون شخصيا من هذا التقليد، إذ أصدر خلفه، جيرالد فورد، عفوا عنه بعد إقصائه عن الرئاسة في أعقاب فضيحة ووترغيت.
وكان هذا المبدأ مقبولا ومعمولا به سابقا، واستفاد منه رؤساء كثيرون، بينهم بيل كلينتون، مثلا، الذي احتفظ بمنصبه بعد افتضاح علاقته بمتدربة شابة في البيت الأبيض. وما ساعد على تقبل هذا المبدأ، هو أن الرؤساء المؤسسين تمتعوا بشخصيات رصينة، وحملوا مبادئ عليا، وضربوا مثالا في تطبيق القانون وتجسيد المُثُل التي قامت على أساسها الولايات المتحدة الأمريكية.
ربما توهم الرئيس السابق، دونالد ترامب، بأن هذا التقليد سوف يشمله أيضا، فلم يكترث للأعراف والقوانين والتقاليد السياسية، بل تصرف وكأنها لا تعنيه مطلقا، وإنما وُضِعت لغيره. بل إنه لم يكترث للتقاليد السياسية حتى قبل توليه رئاسة أعظم دولة في العالم، تدعي بأنها تجسد مبادئ الديمقراطية والحرية والعدالة، وتطبق القانون الدولي.
كان ترامب يطمح إلى الترشح للرئاسة منذ صباه، وهناك تسجيل تلفزيوني قديم له، يقول فيه إنه سيرشح للرئاسة إن اعتقد بأنه سوف يفوز بها. وفي العادة، يحْذَر الطامحون في العمل السياسي من ارتكاب أي مخالفة قانونية أو أخلاقية، لأنهم يعلمون بأن خصومهم سوف يستخدمونها ضدهم. لكن ترامب لم يحترس مطلقا، وقد مارس حياته كما يحلو له، ودون أي قيود أخلاقية أو دبلوماسية يحتِّمها العمل السياسي، سواء قبل الترشح للرئاسة، أو بعد أن أصبح رئيسا.
بعض المخالفات، كالخطاب المتطرف والكلمات النابية التي يستخدمها أحيانا، بل حتى مخالفة قانون إنفاق أموال التبرعات الانتخابية، أو ما سمي بقضية (ستورمي دانيالز)، التي يقاضى عنها الآن، ليست خطيرة، وإن أدين بها، ومن الواضح أنه سوف يُدان، فإنها لن تعيق بقاءه مرشحا. لكن قضايا أخرى خطيرة تصطف في انتظاره، وأخطرها هي التحريض على مهاجمة مبنى الكونغرس (كابيتول) في 6 يناير 2021 لإعاقة إجراء التصديق على نتائج الانتخابات، ومحاولته الضغط على المسؤولين الجمهوريين في بعض الولايات لزيادة عدد الأصوات لصالحه.
لم تعد أمريكا كما كانت، بل بدأت تشبه بلدان العالم الغربي الأخرى، كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، في التعامل مع الرئيس أو رئيس الوزراء كمواطن عادي، يخضع للقانون ويحاسب على المخالفات التي يرتكبها. بل في أحيان كثيرة، يُطبِّق القضاء القانون بقسوة على المسؤولين، خصوصا في بريطانيا، وقد دفع سياسيون كثيرون الثمن غاليا بسبب ارتكابهم مخالفات، كانت ستكون بسيطة لو كان مرتكبوها مواطنين عاديين.
في بريطانيا، مثلا، يتعرض رئيس الوزراء الأسبق، بوريس جونسون، إلى المساءلة على مخالفته قانون الإغلاق الذي سُن في عهده، بينما لم يحاسَب آلاف المواطنين الذين ارتكبوا مخالفات مماثلة. وقبله، أحيل توني بلير إلى التحقيق على أيدي سلفه ووزير ماليته لعشر سنين، غوردون براون، بخصوص الحرب على العراق، وفي النهاية، انتقده التحقيق، ودفعه إلى تقديم اعتذار.
وفي فرنسا أُدين الرئيس الأسبق، نيكولاس ساركوزي، بتهم فساد، تتعلق إحداها بتلقي حملته الانتخابية 50 مليون دولار من العقيد القذافي، وقد حُكم عليه بالسجن، ولكن، سُمِح له بقضاء محكوميته في داره. وحتى موحِّد ألمانيا، هلمت كول، الفائز في الانتخابات أربع مرات متتالية، خضع للتحقيق بخصوص أموال غير معلنة تسلمها حزبه، لكنه بُرِّئ من الاستفادة الشخصية منها.
وفي البرازيل حُكِم على الرئيس المنتخب لدورتين، (لولا ديسيلفا)، بالسجن في قضايا غسيل أموال وتلقي رشاوى، لكن المحكمة العليا أبطلت الحكم، واعتبرته مُحفَّزا بدوافع سياسية، ولكن بعد أن أمضى (لولا) عاما ونصف في السجن. وفي انتخابات عام 2022، فاز (لولا) على منافسه الذي أدخله السجن، جائير بولسينارو، وتولى رئاسة البرازيل للمرة الثالثة.
عندما يطَّلِع المرء على سجل رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق، سيلفيو بيرلسكوني، والعدد الكبير من التهم الموجهة له، وأحكام الإدانة الصادرة بحقه، يستغرب كيف أن شخصا كهذا، بهذه المواصفات الأخلاقية المتدنية، يمكن أن يفوز في الانتخابات، ويشكِّل الحكومة عدة مرات، وفي النهاية يتخلص من السجن، لكبر سنه، إذ تجاوز الثمانين من العمر عند تأكيد محاكم الاستئناف أحكام السجن الصادرة بحقه!
كان الترشح لدورتين رئاسيتين متتاليتين تقليدا أمريكيا، ولم يتحول إلى قانون حتى عام 1951 في عهد الرئيس هاري ترومان. ومع ذلك اكتفى الرؤساء الأمريكان بدورتين، دون أن يسعى أيٌّ منهم إلى الترشح لدورة ثالثة بالتتابع، سوى فرانكلين روزفلت، الذي شغل المنصب أربع مرات متتالية، بين 1933-1945، وذلك لظروف الكساد العظيم، ثم الحرب العالمية الثانية، لكنه مات في بداية دورته الرابعة. أما هاري ترومان، فقد خدم لثلاث ولايات رئاسية، الأولى كانت لإكمال الولاية الرابعة لسلفه روزفلت، أما الثانية والثالثة فكانتا لفوزه في الانتخابات.
وخلافا لما يحصل في الأنظمة البرلمانية، حيث يرشح رئيس الوزراء، أو مرشح المعارضة لرئاسة الوزراء، حتى وإن كان خاسرا سابقا، فإن المرشحين الخاسرين في الانتخابات الرئاسية، لا يرشحون أنفسهم مرة أخرى، حتى وإن فاز منافسوهم بفارق ضئيل، كما حصل في انتخابات عام 2000 مع جورج بوش، الذي فاز بفارق ضئيل على منافسه، أل غور، الذي حاز على أصوات أكثر من بوش، الذي فاز بأصوات الكلية الانتخابية (وهو نظام كان يسمح لممثلي الشعب من الحزبين بتغيير ولاءاتهم).
صار الرئيس ترامب أول رئيس أمريكي يتهمه محَلَّفون بارتكاب جريمة، ويمْثُل أمام محكمة جنائية. ليس متوقعا أن يدخل الرئيس ترامب السجن، حتى وإن أدين بكل القضايا المتهم بها، أو التي سيُتهَم بها. ومن الواضح أنه ارتكب مخالفات قانونية، ولكن الأهم، هل يستطيع أن يفوز في الانتخابات؟ وهل يخدم ترشحه للرئاسة مرة أخرى الحزب الجمهوري، بعد أن خسر أمام جو بايدن عام 2020؟
أنصار ترامب يعتقدون بأن القضايا المثارة ضده، دوافعها سياسية، وأن الديمقراطيين يشعرون بالهلع من احتمال فوز ترامب، لكن الحقيقة مختلفة. فالديمقراطيون هزموا ترامب عندما كان رئيسا، وليس مستبعدا أن يهزموه مرة أخرى، وهم في السلطة ولديهم غالبية في مجلس الشيوخ، وكان أداؤهم في الانتخابات النصفية جيدا، خلافا للتوقعات.
هناك بين الجمهوريين من يمقت ترامب، مثل السناتور ليز تشيني ومرشح الرئاسة الأسبق، ميت رومني، ونائب الرئيس السابق، مايك بنس. وهناك سياسيون جمهوريون كثيرون يتمنون لو أنه انسحب من السباق، لكنهم يمتنعون عن انتقاده حاليا بسبب الشعبية التي مازال يتمتع بها في صفوف اليمين، وإن كانت تتناقص باستمرار حسب تحليلات العديد من المراقبين والمؤسسات المستقلة، مثل (ستيزين كاونت)، ومجلة الإيكونوميست.
مقاضاة ترامب قد تخدم الحزب الجمهوري، لأنها تقدم له سببا للتوحد ضد الديمقراطيين، وإذا ما مُنع ترامب من الترشح مرة أخرى لأسباب قانونية، أو انسحب من السباق لتدني شعبيته، فإن مرشحا آخر، أكثر قبولا وجاذبية لدى الناخب الأمريكي، مثل حاكم ولاية فلوريدا، رون ديسانتيس، (44 عاما)، سوف يقود الجمهوريين. وحسب استطلاع أجرته مؤسسة (Quinnipiac)، فإن احتمالات ديسانتيس في الفوز أكبر، خصوصا إذا كان منافسه جو بايدن، الذي سيكمل 82 عاما بحلول موعد الانتخابات.
أما إذا اختير ترامب مرشحا للحزب الجمهوري، فإن حظوظ بايدن في الفوز ستفوق ترامب بفارق 8% حسب استطلاع مشترك لـ(PBS/NPR/Marist). واستنادا إلى هذا الاستطلاع، فإن الانطباعات الإيجابية للمشاركين الديمقراطيين عن بايدن بلغت 83%، وانطباعات الجمهوريين الإيجابية حول ترامب 68%. ويفرز الاستطلاع ديسانتيس بأنه المنافس الأقوى لترامب بين الجمهوريين. ويقول رئيس مركز (Public Agenda) للأبحاث، أندرو سيليغسون، لقناة (PBS) إن ديسانتيس، يتبع سياسات يمكن أن توحد الجمهوريين، وليس البلد، ولكنه يقر بأنه المنافس الأقوى لترامب.
ويشير الاستطلاع نفسه إلى أن 45% من الديمقراطيين يفضلون مرشحا غير بايدن، لكنه يظهر أن التأييد لبايدن بين الديمقراطيين ازداد بفارق 12% عن العام الماضي. ويرى سيليغسون أن مشكلة الديمقراطيين هي عدم وجود بديل واضح لبايدن، علما أن كمالا هاريس وبيت بوتيغيغ يتمتعان بتأييد 63% بين الديمقراطيين.
وتعزو قناة (PBS) لأحد الديمقراطيين، براين موزاريلا، قوله إن هناك مخاطرة في ترشيح بايدن لولاية ثانية، "فإذا ما حدث له أي عارض، فإن كل شيء سينتهي معه". بينما تعزو لأحد الجمهوريين، جَري كوفهولد، قوله "إنه لا يوجد راشدون في إدارة الحزب الجمهوري حاليا".
لم يحدث في التأريخ الأمريكي أن رئيسا سابقا كان قد خسر الانتخابات، فاز مقابل رئيس كان قد خسر أمامه، إلا مرة واحدة عام 1892، عندما فاز الرئيس السابق، غروفر كليفلاند، على الرئيس بنيامين هاريسون، الذي كان كليفلاند قد خسر أمامه بفارق ضئيل في أصوات الكلية الانتخابية، رغم حصوله على عدد أكبر من أصوات الناخبين.
ومع توالي التهم على ترامب، وتراجع شعبيته المتواصل بين أعضاء الحزب الجمهوري، فإن من المحتمل أن يعيد الحزب النظر في اختيار مرشحه المقبل، خصوصا مع وجود مرشحين أقوياء مثل رون ديسانتيس، ونيكي هيلي، ومايك بنس، ومايك بومبيو، وجون بولتن، وتَد كروز، وليز تشيني، وماركو روبيو، بين عشرين مرشحا محتملا آخر.
العديد من هؤلاء كانوا إلى عهد قريب من مؤيدي ترامب، لكنهم بدأوا ينتقدونه تصريحا، مثل بَنس وبولتِن، وتلميحا، مثل بومبيو وهيلي. أما تشيني وروبيو، فقد وقفا ضده منذ عام 2016.
معظم مرشحي الحزب الديمقراطي المحتملين للرئاسة، في حال عدم ترشح بايدن لولاية ثانية، غير معروفين، باستثناء نائبة الرئيس، كمالا هاريس، والسناتور بيرني سوندرز، الذي سيتجاوز 83 عاما بحلول موعد الانتخابات، ولن يكون بديلا مناسبا، ليس لتقدمه في السن فحسب، بل لأنه يساري التوجه.
لم يجرؤ حتى الآن أيٌّ من الديمقراطيين على منافسة بايدن، سوى ماريان وليامسون، التي أعلنت أنها ستنافسه. هناك آخرون سيترشحون، مثل حاكم ولاية ألينوي، جي بي بريتسكر، وحاكم ولاية كولورادو، جاريد بوليس، ووزير النقل، بيت بوتيغيغ، والسناتور أيمي كلوبتشر، والسناتور إليزابيث وورين، والنائب ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز.
إن كان الديمقراطيون يقفون فعلا وراء الاتهامات الموجهة لدونالد ترامب، فإنهم في الحقيقة يخدمون الحزب الجمهوري، ويدفعونه لاختيار مرشح أقوى، يمكن أن يوحد الحزب ويجدد خطابه ويشحذ الحماس بين أعضائه، ويتمكن من انتزاع الرئاسة منهم.
الديمقراطيون لا يخشون ترامب في الواقع، وقد تمكنوا من إلحاق الهزيمة به سابقا، وسيتمكنون مستقبلا على الأرجح. إنهم يخشون المرشحين الآخرين، مثل ديسانتيس، وهذا واضح من استهدافهم له، إذ وصفه بريتسكر بأنه ديماغوجي.
دونالد ترامب أضعف نفسه بنفسه، وقدم لخصومه أسلحة قانونية يستخدمونها الآن ضده. شعبيته لم تعد مؤثرة، وخطابه صار مستهلكا وقديما، وغير مقنع للشباب، لذلك صار ضروريا أن يتصدى جيل جديد من الجمهوريين لقيادة الحزب باتجاه مختلف كي يتمكن من تجديد سياساته واستعادة زمام المبادرة.