شهدت الحرب العالمية الثانية دونا عن الحروب الأخرى عددا ضخما من المفارقات، وهذا طبيعي بالنسبة لحرب امتدت لست سنوات وشملت محيط الكرة الأرضية، شاركت فيها أو تأثرت بها كل دول العالم، إحدى المفارقات التي كانت ستنقذ البشرية مزيد من ضحايا هذه الحرب المستعرة "العملية فالكيري"، التي انتهت لسوء الحظ بالفشل.
تعرض هتلر لمحاولات اغتيال عديدة باءت جميعها بالفشل لكن أخطرها وأكثرها تدبيرا وإحكاما كانت العملية فالكيري، فشلت العملية نتيجة سوء حظ عجيب، لتكون المحاولة الأخيرة في سلسلة محاولات التخلص من هذا السفاح النازى.
المخططون لهذه العملية كانوا يسعون لإنقاذ ألمانيا من جنون هتلر، بعد أن طرأت على مجرى الحرب تحولات تنذر بهزيمة ستقبل عليها ألمانيا لا محالة، كان القادة والضباط المشاركون في هذه العملية يسعون لإنقاذ ألمانيا من نهاية مأساوية، من المؤكد أن مشهدها النهائي سوف يختتم بانتقام مروع من الحلفاء، يكبد بلادهم خسائر هائلة.
بعد فشل العملية جاء انتقام هتلر سريعا جدا وعنيفا للغاية، حيث قام بالتحري الدقيق عن كل من شاركوا فيما اعتبره بالطبع مؤامرة على شخصه من قادة وضباط وشخصيات مناوئة لحكمه في ألمانيا وخارجها، وتمكنت أجهزته سريعا من اعتقال قرابة 700 شخص منهم قس الكنيسة الإنجيلية، في التو بدأت حملة إعدامات للرؤوس التي قادت وخططت وفى ذات الليلة بعد محاكمة سريعة، أعدم منهم الجنرال أو الفريق أولبرخت، الكولونيل شتاوفنبرغ، والملازم هافتن، وقد أعدموا رميا بالرصاص على ضوء مصابيح السيارات في ساحة السجن، وبلغت حصيلة من قاموا بالانتحار أو أعدموا 500 شخص، بعدها أحكم هتلر سيطرته على الجيش الألماني بشكل مطلق حتى اليوم الأخير من انهيار حكمه مع سقوط العاصمة برلين.
بعد عدة عقود تم اعتبار القائمين بمحاولة الانقلاب على هتلر أبطال ألمان، وأقيمت لوحة تذكارية للضباط الذين أعدموا بسبب محاولة اغتيال هتلر في 20 يوليو 1944 في نصب المقاومة الألمانية في برلين.
وتعتبر المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل أن دستور دولة القانون "ما كان ليولد بشكله الحالي" من دون ما أقدم عليه فون شتاوفنبرغ ومشاركيه وقالت أيضا في خطبة أمام دفعة من المجندين الجدد في إشارة إلى العملية فالكيري بعد 75 عاما من وقوعها "إن العصيان يصبح أحيانا واجبا".
وأردفت: "الذين تحركوا في العشرين من يوليو هم قدوة لنا".. اعتبارا من ثمانينيات القرن الماضي ترسخ الاعتراف بالمقاومة ضد النازية ونال التقدير القائمون بالعملية فالكيري وطلاب مجموعة "الوردة البيضاء" الذين قطعت رؤوسهم بسبب توزيعهم منشورات ضد النظام، باعتبارهم من رموز هذه المقاومة.
قبل سنة من اكتساح الحلفاء ألمانيا عندما دخل الجنود السوفييت برلين كانت مجموعة من صفوة ضباط الرايخ الثالث ومعهم بعض الشخصيات العامة قد بدأوا في التخطيط لاغتيال هتلر، في إطار خطة يتم خلالها الاستيلاء على الحكم في مفاصل البلاد، وإعلان إنهاء الحرب لإنقاذ المانيا من هزيمة منكرة كانوا متأكدين من قدومها، وكان العقيد "كلاوس فون شتاوفونبرغ" هو الرأس المدبر للخطة.
شتاوفونبرغ سبق تعرضه لإصابة خطيرة في معارك شمال إفريقيا أدت إلى فقد إحدى عينيه ومعصم يده اليمنى وإصبعين من يده اليسرى، وتقديرا لشجاعته وكفاءته استمر في الخدمة حتى تولى وظيفة رئيس أركان جيش الاحتياط، وبعد تغلغل الضباط المناوئين سرا لتهور هتلر طرأت لشتاوفونبرغ خطة التخلص منه لإنقاذ ألمانيا.
بنيت خطة العملية في مرحلتين الأولى: اغتيال هتلر بمتفجرات معبأة في حقيبة خلال اجتماعه مع كبار القادة، وفى المرحلة الثانية: يتم الزعم أن القادة الموالين لهتلر من أركان النظام هم الذين انقلبوا عليه، ومن ثم نتيجة للوضع الذى استجد يتم نشر جيش الاحتياط لإنقاذ النظام منهم واعتقالهم والتخلص منهم لتصفية الرايخ الثالث، وللتمويه بعد السيطرة على السلطة وإبعادا للأنظار عن مدبري العملية فالكيري يطوب هتلر(قوميا) إلى شهيد للأمة الألمانية.
كانت الترتيبات التي وضعت لزرع العبوة الناسفة شديدة التدمير في مقر قيادة هتلر أثناء اجتماعه مع قادته، مسؤولية العقيد شتاوفونبرغ وهو من سيتولى المهمة شخصيا، وكان مصمما على وضع كمية كبيرة من المتفجرات في حقبتين لضمان الإبادة الكاملة للمكان، لكن زملائه أقنعوه أن يقتصر الأمر على حقيبة واحدة نظرا لأنه في كل محاولات اختبار تنفيذ المهمة لم يتمكن شتاوفونبرغ على حمل حقيبتين بثلاثة أصبع.
توجه العقيد كلاوس فون شتاوفونبرغ ومعه مساعده الملازم "فرنر فون هافتن" إلى مقر اجتماع هتلر؛ الذي تغير في اللحظات الأخيرة من "بيرتشسغادن" إلى "عرين الذئب"، وهو موقع اجتماعات وإدارة خاص بهتلر يقع في "راستنبرغ" (صارت الآن مدينة "كيترزن" في بولندا).
وادعى أن سبب حضوره هو عرض تقرير عن الفرق الجديدة التي أنشأها جيش الاحتياط، وهناك طلب أن يخلد للراحة قليلا ويبدل سترته، فأدخله الضابط المسؤول نظرا لأنه من معاقي الحرب إلى غرفة الخرائط، حيث كان سيتم تبيان أوضاع القوات لهتلر من جنرالاته، وبعد دخوله وضع الحقيبة قبالة مقعد هتلر تماما، وبعد لحظات خرج من المكان، لكن لسوء الحظ تعثر أحد الضباط في الحقيبة أثناء الاجتماع وأبعدها جانبا لتنفجر بعيدا مما تسبب في وفاة بعض الضباط وإصابة طفيفة لهتلر، ليبدأ على الفور انتقامه الرهيب.
عندما سمع شتاوفونبرغ صوت الانفجار تصور أنه تم القضاء على هتلر، واتصل بالقادة المشاركين في العملية طبقا للخطة الموضوعة مع الفريق أول "فريدريك أولبريخت" واللواء "هينينغ فون تريسكوامر" للسيطرة على المدن الألمانية ونزع سلاح قوات الأمن الخاصة، والقبض على القيادات النازية حيث كان اغتيال هتلر ضروريا لتحرير الجنود الألمان من قسم الولاء له. لكن الصدفة أفشلت كل الترتيبات المحكمة وأجهضت إنقاذ ألمانيا من جنون هتلر وانتقام الحلفاء.
فالكيري المفردة التي اختيرت كتسمية رمزية للعملية هي امرأة من العالم العلوي في الأساطير الألمانية، تهبط من السماء كي تنتقى الأبطال من الشهداء الشجعان لترافقهم إلى الجنة، وكأن أبطال العملية فالكيري كانوا على موعد معها بعد إعدام أو انتحار المشاركين فيها.. لم تفوت هوليود هذه الواقعة التاريخية وأنتجت عنها فيلما في عام 2008 صور في برلين، من إخراج "براين سينغر" وبطولة توم كروز.