ذلك على الرغم من أن الصحيفة ذكرت على لسان المسؤول الأميركي الذي سرب لها الخبر نفيه مسؤولية القيادة الأوكرانية عن العملية التخريبية. لكن الأوكرانيين لا يريدون تأكيد ما تقوله روسيا من قبل بدء الحرب من أن مجموعات من النازيين الجدد هي التي تدير الأمور في كييف.

ليس التسريب الاستخبارات الأميركي الأول من نوعه، الذي يوجه أصابع الاتهام في تفجير خط الأنابيب في سبتمبر الماضي إلى "جماعة" أو "جماعات"، ربما لدحض الاتهام الروسي الموسع لأميركا والغرب في التفجير. فقد سبق ونشرت وسائل إعلام ألمانية تسريبات استخباراتية أيضا عن استخدام قارب حصل عليه أوكرانيون من بولندا في نقل المتفجرات التي استخدمت في تفجير خط الأنابيب.

تستهدف كل هذه التسريبات الاستخباراتية الغربية صرف الأنظار عن احتمال أن تكون دوله، أو دول، وراء التفجير التخريبي. هذا على الرغم من أن الغرب، خاصة أميركا وبريطانيا، رجح في البداية أن روسيا هي من قامت بتخريب خط أنابيبها لوقف تصدير الغاز إلى أوروبا. وذلك في سياق الاتهامات لموسكو باستخدام الطاقة كسلاح في حرب أوكرانيا.

لا يمكن بأي حال من الأحوال أخذ كل هذه الاتهامات والتسريبات على عواهنها. فلو أن أوكرانيين أرادوا تفجير خط أنابيب غاز روسي، فهناك خط أنابيب يمر عبر أوكرانيا إلى أوروبا ما زال يعمل وينقل الغاز الروسي. وربما كان الأسهل تفجيره بدلا من عملية معقدة لتفجير خط أنابيب نورد ستريم تحت مياه بحر البلطيق.

الأهم، أن أحدا لم يعد يصدق "فبركات" الاستخبارات الغربية التي ثبت كذبها الفج منذ حرب غزو واحتلال العراق قبل عقدين وما قبلها وما بعدها. ولعل "دوسيه" المخابرات البريطانية الشهير الذي ثبت أنه كله "ملفق" بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية أوضح مثال على أن التسريبات غالبا ما تكون كذبا لأغراض أخرى.

أما مسألة أن روسيا أرادت إعطاب خط الأنابيب كي لا تصدر الغاز لأوروبا فهو نكتة سخيفة لا يقبلها عقل. فقد استخدمت موسكو الطاقة للضغط على الأوروبيين دون حاجة لتخريب منشآتها النفطية بنفسها، وذلك حتى حظر الأوروبيون استيراد الغاز والنفط من روسيا بضغط أميركي.

ربما لا يمكن كذلك تصديق الاتهامات الروسية لأميركا ودول أوروبية بتفجير الخط وتخريبه إلى الحد الذي لم يعد معه صالحا لنقل الغاز. ففي النهاية روسيا وأوكرانيا والغرب أطراف في حرب دائرة بالفعل. ومعروف أن أولى ضحايا أي حرب هي الحقيقة، فكل طرف يتعمد الدعاية التعبوية لدعم موقفه في الحرب. والتضليل والخداع أحد أسلحة الحرب غير العسكرية، وهنا تضيع الحقيقة دائما.

تقول روسيا إنه لا يسمح لها بالتحقيق في تخريب خط الأنابيب، وتقول السلطات السويدية وغيرها القريبة من موقع التخريب إنها تجري تحقيقات منذ الخريف الماضي ولم تتوصل إلى نتيجة حاسمة. والأرجح أن أحدا لن يتوصل إلى نتيجة حاسمة، أو أنها إذا اتضحت لأحد ستعلن للعالم. ذلك ببساطة لأن التخريب في الأغلب الأعم لم يكن عملا منعزلا، ولا قامت به مجموعة تخريبية تعمل بعيدا عن دول وقرارات سياسية.

لكن كل ذي عقل يستخدم المنطق البسيط لن يكون بحاجة للانتظار سنوات لاكتشاف الكذب والتضليل والتلفيق كما في مسألة سلاح الدمار الشامل العراقي الوهمي ولا غيره. ولعل الطريق الأمثل لحل لغز التفجير والتخريب، بعيدا عن التسريبات والتلفيقات والدعاية التعبوية، هو البحث عن المستفيد من تدمير خط أنابيب الغاز الروسي إلى أوروبا. صحيح أن ذلك يسمى في التحقيقات الجنائية "أدلة ظرفية" غير قاطعة، لكنها على الأقل أكثر منطقية من القبول بتسريبات ملفقة ومغرضة على أقل تقدير.

من المستفيد الرئيسي من تخريب بنية أساسية لتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا على المدى البعيد؟ فقطع أو حظر تلك الصادرات كجزء من الصراع بسبب حرب أوكرانيا لا يعني وقفها تماما، فطالما البنية التحتية موجودة، يمكن في حال أي تسوية، أو حتى تغيير النظام في موسكو، عودة تلك الصادرات مرة أخرى. ولا ننسى أن أوروبا كانت تستورد نصف حاجتها من الطاقة من روسيا.

منذ بداية الحرب حتى الآن ومع قطع روسيا صادرات الغاز لأوروبا ثم حظر أوروبا استيراد الغاز والنفط والمشتقات الروسية زادت الشركات الأميركية صادراتها من الغاز الطبيعي المسال الأعلى سعرا من الغاز الطبيعي عبر الأنابيب إلى أوروبا بما بين 15 إلى 20 في المئة. وحسب افصاحات الشركات للبورصة، راكمت شركات الطاقة الأميركية الكبرى نحو مئة مليار دولار من الأرباح نتيجة زيادة مبيعاتها لدول أوروبا. أما المستفيد التالي، وإن بدرجة أقل كثيرا، فهي بريطانيا التي تعد جسرا لتفريغ شحنات الغاز الطبيعي المسال الأميركية وضخها إلى أوروبا كغاز في خطوط أنابيب. وربما لا تريد واشنطن ولندن أن يعود أي تعامل في مجال الطاقة بين دول أوروبا وروسيا حتى بعد الحرب. تبقى هنا بولندا، الذي صرح رئيسها في حوار مع شبكة "سي إن إن" هذا الأسبوع بأن ضرب خط أنابيب الغاز الروسي كان مفيدا لأوروبا!

تلك الفائدة طويلة الأمد، تكفي ولو ظرفيا كدافع رئيسي يسهم في تحديد من قام بالعمل التخريبي في مياه البلطيق. ومع عدم استبعاد أي احتمالات أخرى، يصعب في الوقت نفسه تصديق أي تسريبات استخباراتية. لكن لأن الاعتقاد السائد هو أن "الناس تنسى بسرعة"، لن تتوقف تلك التسريبات عن التضليل والتلفيقات.