وإذا كان ذلك ممّا تمتّعت به فعلاً؛ وإذا أمكنها أن تبسُط نفوذها الاقتصاديّ على أوروبا الشّرقيّة - بعد زوال أنظمتها الشّيوعيّة - وأن تستلحقها بنموذجها الاجتماعيّ؛ ثمّ إذا أمكنها أن تذهب في مشروعها التّعاونيّ البينيّ من محطّة "الجماعة الأوروبيّة" إلى محطّة "الاتّحاد الأوروبيّ"... (إذا أمكنها ذلك كلّه)، فقد تعذّر على دولها، تماماً، أن تستعيد سيادتَها الكاملة واستقلاليّة قرارها اللّتيْن سبق أن فقدتْهما منذ الحرب العالميّة الثّانيّة وبأثرٍ من نتائجها، وفي قلب تلك النّتائج التّمدُّد السّوفياتيّ في شرق أوروبا.

بدا، في لحظةٍ، وكأنّ مكاسب أوروبا المغنومة من تجربة الحرب الباردة ومن انصرام حقبة الاستقطاب الدّوليّ بين الشّرق والغرب، ما تَعَدَّتْ حدوداً رمزيّةً إلى حيث تكون، فعلاً، مكاسب جزيلة تتحرّر بها بلدان أوروبا - مجتمعاتٍ ودولاً - من الأصفاد التي ضُرِبت على إرادتها. في المقابل، بدا وكأنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة وحدها - في معسكر الغرب كلِّه - حصلت على تلك المغانم جميعِها: تخلّصت من "الخطر الشّيوعيّ" بعد انهيار النّظام السّوفياتيّ وانفراط معسكر حلفائه في شرق أوروبا؛ ومدّت نفوذها السّياسيّ والعسكريّ إلى بلدان الشّرق الأوروبيّ والجمهوريّات المستقلّة عن روسيا والمحاذية لها فأدمجتها في المنظومة الأطلسيّة؛ ثمّ أَبْقتْ على سيطرتها على قرار دول غرب أوروبا وعلى سيادتها من طريق الإبقاء على إطارٍ جامعٍ لدول الغرب - بقيادة أميركا - هو "منظّمة حلف شمال الأطلسيّ". وكان في ذلك ما يبعث على الشّعور بالمفارقة الحادّة؛ إذ عند المضاهاة في ميزان المقارَنة بين ما غنِمته دول غرب أوروبا من مكاسب، من كلّ تلك التّحوّلات، وما تدفّق في رصيد الولايات المتّحدة الأميركيّة من أرباح صافية سيشعر المرء وكأنّما أميركا تقع على الجوار الرّوسيّ وليست أوروبا لكي تحصد لنفسها ثمرة انقلاب التّوازنات في ذلك الجوار!

إنّ المظهر المؤسّسيّ الذي تتبدّى فيه الهيمنة الأميركيّة على القرار الأوروبيّ، اليوم، هو وجود "منظّمة حلف شمال الأطلسيّ" إطاراً جامعاً لدول الغرب ولإنتاج سياساته الدّوليّة في مجالات الأمن والدّفاع والسّياسة الخارجيّة. ولقد قضت ظروفٌ عالميّة، في ما مضى، من نوع الاستقطاب الدّوليّ بين الدّولتين العظمييْن ثمّ بين المعسكريْن، وتنامي المخافة الغربيّة من تزايد الزّحف الشّيوعيّ السّوفياتيّ شرقاً، ومن مخاطره على أمن أوروبا الغربيّة...، بأن تلتئم دول الغرب، مجتمعةً، في حلفٍ عسكريّ كبير يقف سدّاً أمام النّفوذ السّوفياتيّ. وقع ذلك في لحظةٍ كانت فيها أوروبا الغربيّة منهارة اقتصاديّاً وضعيفة عسكريّاً ومحتاجة إلى الدّعم الأميركيّ لإعادة بنائها. لذلك ما وجدت لنفسها مَهْرباً من الوقوع تحت وصايةٍ اضطراريّة أميركيّة عليها، زاد معدّلها مع الوقت في امتداد تزايد سباق التّسلّح والنّشر المتبادَل - الأميركيّ والسّوفياتيّ - للصّواريخ المحمَّلة بالرّؤوس النّوويّة في أوروبا؛ وهو المناخ الذي كان يتعزّز فيه الحضور العسكريّ الأميركيّ في مجموع أوروبا الغربيّة لا في ألمانيا حصراً حيث قواعد أميركا العسكريّة منتشرة.

والحقّ أنّ بعض أوروبا، الحريص على سيادته وقراره المستقلّ، أبدى أشكالاً من الاعتراض على تلك الوصاية الأميركيّة الجارية من وراء ستار الحلف الأطلسيّ، حتّى وإنْ كان ذلك على نحوٍ غير مباشر تفادياً للاصطدام بواشنطن. من ذلك، مثلاً، تلك المسافة السّياسيّة الفاصلة التي أَبْقَت عليها فرنسا الدّيغوليّة تجاه "منظّمة حلف شمال الأطلسيّ" ومؤسّساتها العسكريّة خاصّة، والتي أفصحت عن نفسها في قرار الرّئيس ديغول انسحاب فرنسا من الأطر العسكريّة للحلف. ولم يكن ذلك فقط لأنّ فرنسا ترغب في عدم إعلان العداء تجاه الاتّحاد السّوفياتيّ قصد تنمية علاقات التّعاون، بل - أيضاً - من أجل إخراج قرارها المستقلّ من أرباق الهيمنة الأميركيّة. غير أنّ هذه النّزعة الاستقلاليّة الفرنسيّة انتهت، في المطاف الأخير، إلى الأفول فعادت فرنسا - أو أعيدت - إلى قفص الوصاية من باب الاندماج مجدّداً في مؤسّسات المنظومة الاطلسيّة.

كان يُفترضُ أن ينتهيَ العمل بمنظومة الأطلسيّ بعد أنِ ارتفعتِ الأسباب التي كانت في أساس إنشائها؛ فلا "خطرٌ شيوعيّ" في قلب أوروبا، اليوم، ولا انتشار للرّؤوس النّوويّة على الحدود بين روسيا والغرب ولا شيء ممّا كان يبرِّر الحاجة إلى تلك المظلّة ما زال قائماً. مع ذلك، تستمرّ المنظومة في الوجود وكأنّ شيئاً لم يقع منذ ثلث قرن: لا منظومة "اشتراكيّة" تفكّكت، ولا حربٌ باردة تصرَّمت ولا يَحْزنون! ولا يحتاج المرء إلى ذكاءٍ كبير ليعرف سبب ذلك الإصرار الأميركيّ على الإبقاء عليها حيّةً فاعلة، بل على توسعة نطاق نفوذها إلى مناطق النّفوذ السّوفياتيّ السّابقة؛ إنّها - مثل مسمار جُحا - ذريعةً لإبقاء أوروبا تحت نفوذ الولايات المتّحدة ووصايتها!