يشتاقُ كل غريبٍ عند غربته

ويذكر الأهل والجيران والوطنَا

وليس لي وطن أمسيتُ أذكره

إلّا المقابر إذا صارت لهم وطناً

(علي ابن الجهم)

حقّاً أن مَن يستحقّ أن نتذكّرهم إلى الأبد، هم أولئك الذين فقدناهم إلى الأبد. فما يهب القداسة للكائن الفاني، هو حضوره في قبضة الأبدية، ممّا يستوجب أن ننحني له إكباراً، هو يقيناً بالفقد حُجّة في بُعده كغنيمة خلود. فاليأس من وجود عزاء أيضاً خلاص، أيضاً حريّة. برغم أنها حرية من طينة تراجيدية. وكلّما كان مَن فقدنا أعظم حميميّة في تجربتنا، كلّما استقطع منّا النصيب الأنبل فينا، فلا نملك إلّا أن نرثي أنفسنا عندما نرثيهم، لأنهم ليس سوى «نحن» على نحوٍ مّا، لأن أولئك الذين أحْببنا يسكنوننا، بقدر ما نسكنهم، حتّى إذا تبدّدوا من واقعنا، تبدّدنا أيضاً، كل ما هنالك أنهم ينقطعون من وجودنا، ليستقطعوا، بانقطاعهم، الحصّة الأعظم قيمةً من روحنا، ليستودعوها زاداً في رحلتهم، لأن ما نسمّيه ميتة، ما هو إلّا الاغتراب في صيغة المطلق، والفقد ما هو إلّا مِيتة أيضاً، في حجمها الأصغر، وهي مهدّدة بأن تستوي في ميتة المطلق، إذا استنزفت رصيد ذخيرتها من مستودع الأحبّة، والبرهان تهبه لنا التجربة، التي يلفظ فيها المبتلون بالفقد أنفاس النزع الأخير، ليلتحقوا بمن سبقهم ممّن أحبّوا، لأن الرحيل ميتة المَرّة، أمّا معاندة الفقد قيد الحياة فمِيتةُ المرّات!

بوسع العمر أيضاً أن يلعب دوراً حاسماً في محنة اغترابنا الدرامي، سيّما في مرحلته المتأخّرة، لأن اليأس من البقاء أمداً أطول، يتضاعف كلّما اقتربنا من موقع الصفر، بالمقارنة مع المراحل التي نحسب فيها أنفسنا خالدين فيها أبداً؛ بسبب الإحساس العدميّ بغياب وجود فرق بين الوجود والعدم. وسرّ الفجيعة في الفقد عملٌ ناتجٌ عن الطبيعة المأساوية في الفقد، فيما إذا قورنت بنقيضها الفوز. ولو خُيّر أولئك الذين احترقوا بجحيم الفقد، لما اختاروا الفوز بمن سيغدو في وجودهم عنوان سعادة، إذا كانت هذه السعادة بثمن فجيعة مترجمة بحرف الفقد؛ لأن السعادة غنيمة عصيّة لا تعترف بغير التقسيط ديناً، في حين يأبى الفقد إلّا أن يتنزّل تنزيلاً، يتنزّل قارعةً، كأنه يثأر، كأنه ينتقم انتقاماً، كأنه يقتصّ منّا، جزاء تلك المتعة المنسيّة، التي نلناها يوماً بلقاء مَن أحببنا، فإذا بنا ندفع بالفراق ثمنها الألم أضعافاً، سيّما عندما يباغتنا الفقد في البرزخ الذي بلغنا فيه من العمر عتيّاً، فلا يسعفنا الوقت لتعويض الخسارة، الناجمة عن بليّة الفقد، حتّى أن المرارة تدفعنا لأن نندم على كل علاقة أقمناها، لندمنها في حياتنا إفيوناً.

ولكن، برغم الهمّ، بيد أنّنا يجب أن نعترف للفقد بفضيلة. فهو داهية يروّض فينا مارداً جبّاراً هو الاستكبار، كما يربّي فينا الإحساس الحكيم بقبول التسليم قدراً. فبقدر ما يدلّلنا الحظّ بهبات المجّان، بقدر ما يلقّننا الفقد دروس الآلام، كلّما جرّدنا ممّا سوّقناه في نشاطنا غنيمة أزمان، علّنا نستيقظ من غفلتنا، لنعلم أخيراً، أن الفقد قدرنا نحن أيضاً، لا لأننا فانون بطبيعتنا فحسب، ولكن لأننا لم نولد في عالم الباطل إلّا كقرابين تنتظر دورها في دفع الدَّين.

فإذا كان الإغتراب عن الوطن ضياعاً، فإن إضاعة مَنْ أحببنا ضياع مرّتين. الاغتراب عن الوطن حقّاً فقد، ولكن تلقّي نبأ غياب مَن أحببنا بعيداً عن حرم الوطن فَقْدٌ مركّبٌ، ومصابٌ عديم لأي ترياق. ففي مطلع     1979 إبّان المقام في ديار الصقالبة (البولون) كان لي شرف استطعام مرارة هذا الجنس من الفراق، بل الجنس الأقسى على الإطلاق في حياة أي إنسان، وهو: غياب النموذج، الذي كان وسيبقى عرّاب الوجود في تجربة كل مخلوق فانٍ، لأنه وحده المؤهّل لأن يتبوّأ منزلة روح المغامرة الكينونية، ولهذا السبب وحده حقيقٌ بأن يهب حياتنا المعنى، وهو: الأب، الذي حقّ له أن يستعير صلاحيات الأب الأعلى، ليخلف، في واقعنا، الحرفيّ، هذا الأب الأعلى. وها هو وجودي في المنافي يحرمني ما كان قدس أقداس في ناموس كل الديانات وهو: النظرة الأخيرة على أحبّ خلق الله قاطبة، لما لهذه النظرة من سحر غيبيّ لن يكتب لنا أن ندرك معناه إلّا إذا حُرمنا منه، فألعَن المسافات والقارات والمنافي لأوّل مرّة، لأن وصولي لفردوس الأبوّة كلّفني ثلاثة أيام متنقّلاً بين المطارات، كي أبلغ الأرض التي اختارها لتكون له أرجوحة مهد، وها هي تصطفيه لتغدو له مثوى الأبد.

لقد ظننت أن احترافي المنافي هو تلبية ضمنية للنداء الذي حرّضنا عليه، وهو إدمان أفيون، اسمه الحرية. وهو تحريضٌ لم نلتقمهُ من فمه درساً، ولكننا قرأناه طبيعةً تسري في هوسه بالهجرة. هجرة مركّبة، لأنها هجرة تسكن هجرة، بل تسكن حفنة هجرات، لأن وجودنا في هذا المنفى، المدعو دنيا، هجرة بالسليقة. فالكل مسكونٌ بهذا الفايروس جينيّاً، قبل أن يحترفه في نشاطه حرفياً. أمّا الأب فمسكونٌ به كمَسّ. مسكون به كهاجس، بسبب شغف فطري بالفرار، بالاستسلام لإغواء الصحراء الذي لا يقاوم، بالهجرة المترجمة في صيغة التنقّل بلا توقّف، تلبيةً لنداء ما ورائي تلقّاه سنوات السجن في قمقم بَدنٍ مشدودٍ إلى الأرض طوال سبعة أعوام لمرضٍ مجهول، حتى إذا تحرّر من الأسر في أحد الأيام، آلى على نفسه ألّا يركن لمكانٍ أبداً وفاءً للعهد، فلم يكتفِ بأن يمارس بنود العهد، ولكنه أبَى إلّا أن يستزرع جرثوم الهجرة في ذرّيّته أيضاً، لنرث نحن أيضاً عنه دين الهجرة، إلى الحدّ الذي عاش فيه مطارداً، في حمّى سباق تراجيدي كنا فيه نحن الطريدة، وهو القنّاص، فلم نسعد بحضورنا في رحابه، كما لم يسعد هو بحضورنا في حضرته، لأن الحرمان من متعة الحضور في فراديس الأحبّة، مكوس الهوَس بالحرية. وها هو هذا الإنسان، الذي لقّننا في سيرته درس القيم الأخلاقية، بالإضافة إلى درس الحرية، يهاجر أبديّاً، مشفوعاً بحرية الأبعاد القصوى حرفياً، معتنقاً دين الهجرة في صيغتها الصغرى، في طريقه إلى آزجر، الواقعة في الجزائر، ليؤدّي واجب العزاء في زعيمٍ جليل، لقى مصرعه في حادث سير، فإذا بالهجرة الصغرى تخذله في منتصف الطريق، عندما صرعته بمرضٍ غيبيّ فجائي، ليقترح رفاق الرحلة العودة إلى الواحة. ولكنه رفض وأبَى إلّا أن يواصل التحمّم بسلسبيل إفيونه الخالد، الذي شاء إلّا أن يرحمه من الهمّ الكينوني، لأن المقام الذي يليق بأمثاله ليس حضيض الدنيا الفانية، ولكنه الأبديّة الخالدة. فكانت هجرة الذهاب إلى ما وراء الحدود لتأدية واجب العزاء في زعيمٍ قبليٍّ عظيم، هي فاتحة الختام في الهجرة التي ابتدأت من المهد، ولم تتوقّف حتى استودعته جنان اللّحد، لينعم بالسكينة عن استحقاق.

هل الحسرة أنه حقّق هجرة الأنبياء في مفهومها المطلق لمجرّد أن اللسان أعجزه أن يعبّر عن الرسالة الموجعة التي هدهدَها دوماً في وجدانه، فخذلته العضلة اللئيمة كترجمانٍ فمات بغصّة؟

بلى! الإخفاق في استخدام اللسان بلاء، ولكن الواجب يقضي أن ننصف أمثال هذا الشهيد بأن نجتهد في استنطاق ما أهدوه لنا في تجربتهم الدنيوية، ونستبعد من المشهد حُجَج الألسن، لأن التجربة هي شهادة البرهان في وصيّة أمثال هذا النموذج الذي شهدت له القبائل كلّها بهويّة الفارس في أداء الواجب.

فما يجب أن يثيرنا هو هذا الخصام الناشب بين النبوّة، وبين اللغة. وهو خصامٌ، بل عداءٌ، مستعار من هوية النبوّة كحقيقة، والحقيقة هو ما أعجز أن تترجمه لنا اللغة. ولهذا السبب فقدنا، في تاريخنا أنبياء كُثُر فضّلوا أن يختنقوا بغصّة النبوّة في صدورهم، على أن يفسدوا فحواها بعضلةٍ آثمة كاللسان، فاغتربوا عنّا دون أن نكتشف حقيقتهم، لنفقد، بهذا الاغتراب، السبيل إلى رسالتهم.

ونموذج كالأبّ لم يكن ينتمي إلى طينة هذه الطائفة. لو لم يقطع الصحراء الكبرى طولاً وعرضاً طلباً لخلاص، طلباً لحرية الحدود القصوى، التي لا وجود لها إلّا في الموت؛ ولكن هذا البعبع الجبان كان يهرب منه في كلّ مرة، كما راقه أن يعترف مراراً. ولّى هذا البعبع منه هارباً عندما التحق بكباكب الأبطال، الذين يمّموا صوب الشمال لصدّ الغزاة الطليان على الصحراء، في معارك وادي الثلث، ثم وادي سيدي مرسيط.

 ثم عاد وفرّ من وجهه الموت مراراً في جنوب الصحراء، أعوام النزال مع الفرنسيس. فكيف لا يفقدني صوابي فَقْد هذا الإنسان الذي استهان بالموت دوماً، وسوّقه في وجوده كملاذ، فإذا بهذا الشبح ينتهز فرصة غرام الأب بالحرية، التي أدمنها في الهجرة، ليأخذه بمعشوقته الهجرة على حين غرّة، أثناء تأدية واجب مقدّس هو العزاء في سبيل خلٍّ هو إمام قومٍ، ارتحل فجأة؟

فطلب الموت لا يكون هوساً بحرية الأبعاد القصوى، إلّا في حال استعار الطلب بُعد المعنى، وهو المعنى الذي لا يستعير لنفسه معنى، ما لم يكن قيمةً، قيمة هي رهينة التضحية بالضرورة.

فقيمة كل بطل في المهزلة الأرضية تكمن في مدى استعداد هذا البطل للجود بالروح في سبيل مثال، في سبيل مبدأ يؤمن به مثالاً، لأن هذا الجنس من الجود هو الشهادة، التي يستطيع أن يتباهى بها أخلافه من بعده. والقيم الإنسانية الرائدة، الواردة في صحيفة مكارم الأخلاق، كالشجاعة، أو الانتصار للعدالة، أو النزاهة، أو الزهد في حطام الدنيا، هي الثروة النفيسة، التي أورثها لنا هذا الإنسان المعتزل، لتكون لجيلنا شهادة براءة، لقّنتنا الدرس الصعب، الذي أخفقت في أن تلقّنه لنا الجامعات أو الأكاديميات، لكي نستطيع أن نقول لأنفسنا أننا استنرنا بالوصيّة، فعشنا وفق القوانين الطبيعية، الأقوى حجّةً من القوانين الوضعيّة، وهو ما يهوّن مرارة الفقد، ويعوّض خسارة نموذج منزّه كالأبّ، هو في كل الثقافات معلّمٌ أوّل، وإلّا لما نصّبته هذه الثقافات رديفاً للمعبود في كلمة «ربّ».