فعلى الرغم من أن النخب الفكرية والسياسية قدمت سيلاً هائلاً من الرؤى حول الأمن القومي العربي إلا أن الخلط بين مقتضيات الاشتباك بين الأمن العربي والوطني تظل منطقة رمادية واسعة لم تقدم فيها قراءة واضحة يمكن الاستناد عليها مع التطورات الحاصلة في العالم وما شهدته المنطقة العربية من تحولات سياسية أعقبت ما بعد جلاء الاستعمار الأجنبي وما آلت إليه احوال البلدان فيما انتهت عليه الحرب العالمية الثانية وكذلك الحرب الباردة الأولى. 

وبرغم أن أدبيات الجامعة العربية كانت قد تبنت مفهوماً للأمن القومي منذ العام 1945 إلا أن التعريف الموضوعي نشأ مع العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956 بعد إعلان الزعيم جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس، وهنا تبدو أهمية التعريف وضروراته فلا يمكن اجترار تعريفات ملتبسة وتمريرها لمصلحة أفكار طارئة أو حتى تسويغات لمواقف سياسية أو حتى دعائية، فمحددات الأمن والحرب هي الوجهة الصحيحة للوصول إلى التعريف الدقيق لنظرية الأمن القومي العربي، القُطر المصري بجغرافيته المحددة منذ بداية التاريخ البشري ظل وسيبقى محوراً رئيسياً في كينونة الأمن القومي لارتباط مصر ببلاد الشام المرتبطة عضوياً بالقطر العراقي الذي بدوره يمتد بعروقه مع بلدان شبه الجزيرة العربية. 

في العام 1956 نظر المصريين إلى الخريطة بدقة الموقف وهنا تبدو جلية حقائق التاريخ والجغرافيا فقناة السويس مرتبطة وجودياً بحقيقة باب المندب وهذا ما يعنيه تماماً أن البحر الأحمر وهو الفاصل بين القارتين الآسيوية والأفريقية مع الارتباط ببحر العرب وخليج عدن في اتساع بالمحيط الهندي، ماشكلته حقيقة جغرافية الأرض هي التي دفعت بمحددات الأمن القومي العربي وربطته في لحظة الحدث الطارئة على مصر بأن أمنها الوطني متعلق بما هو أبعد من حدودها الوطنية، مقتضيات الضرورة جعلت من الأهمية أن يقرر المصريين سريعاً الدفع ناحية دعم حركة التحرر الوطني في عدن وهو ما تم وتحقق بجلاء بريطانيا في العام 1967 وعلى أثر ذلك تمكنت دول الخليج العربية من تحقيق الاستقلال الوطني دون انتظار لما جاء في الكتاب الأبيض الذي أقرته جلالة الملكة اليزابيث الثانية.

كان العدو آنذاك واضح المعالم والمكان فالوجود الإسرائيلي هو الذي حدد حدود الصراع وعليه كانت الحروب التي امتدت حتى عبور القوات المصرية في السادس من أكتوبر 1973، عند رفع العلم المصري على الضفة المحتلة من القناة تشكلت في الواقع نقطة الإرتكاز للأمن القومي العربي وانتهت فعلياً حروب العرب مع إسرائيل وعلى تلك الحقيقة ذهب الرئيس السادات منفرداً لإبرام معاهدة كامب ديفيد، قد يرى البعض أن هناك إلتباساً ما حدث غير أنها حقائق التاريخ وعلى الكل القبول بها فلم تحدث ولن تحدث حروب قومية بمعناها التعبوي مع إسرائيل فلقد انتهت الحروب عند قناة السويس.

التهديد من الجوار العربي كان وسيظل حاضراً وما حرب العراق مع إيران غير واحدة كما هو الاشتباك بين سوريا وتركيا عند لواء الاسكندرون، تلك حروب كذلك تضع حقائق الجغرافيا والتاريخ على الواقع ولا يمكن بحال من الأحوال عبورها فالحزام الشمالي للعالم العربي لطالما رغب بالتوسع في الأرض العربية مع ضعف النظم السياسية ومع النزعة التي تنامت في البلاد العربية بصعود التيار الإسلامي الذي ساق المنطقة لصراعات لا ناقة له فيها ولا جمل، ففي خضم الحرب الباردة هناك من قدم أبناءه العرب ليكونوا حطباً في حرب أفغانستان بدون إدراك أن هناك مستقبل سيأتي وهو ما تحقق لاحقاً عندما تحول أبناء العرب للمهدد الأخطر لكل الأمن الوطني للعرب فرجيع الإيدلوجية الدينية تحول لوحش كاسر صنعته تقديرات خاطئة في لحظة عربية خضع فيها العرب لفتاوى تعريف الأمن القومي العربي والنتيجة ها هم العرب يقاتلون أبنائهم ويطاردونهم ليطردونهم من العبث بالأمن والاستقرار للشعوب التي وقعت ضحية فتاوى الجاهلية.

أن الآوان لوضع تعريف صحيح لمفهوم الأمن القومي العربي فليس من المنطق أن يدافع عن الأمن القومي من أعتبر القومية ديناً وأصدر عليها أحكاماً تكفيرية مازالت محفوظة في كتبهم ومقالاتهم وتعشش في رؤوسهم، فالذين كفروا القومية العربية باعتبارها خصماً لعقيدة دينية باعتبارهم حملة لواء الإسلام هم الذين عادوا ليقدموا أنفسهم في لحظة الغيبوبة أنهم المدافعين عن الأمن العربي، العقائد ليست بضاعة تباع في الأسواق بل هي مناهج تعيش عليها الأمم وتبنى على أساسها الأوطان ومتى ما فسدت العقائد تبددت الآمال وتحطمت الشعوب في أوطانها، فالحاجة اللحظية الملحة لتعريف للأمن القومي العربي مع ضرورة تطهير للتراث الذي وزع صكوك الكفر والإيمان في أزمنة الغيبوبة العربية.