الرسالة هوية وجدانيّة، بما هي تقنينٌ لعاطفة إنسانيّة، منتدبة لتوطين علاقة، أو استعادة لفردوس علاقة تضعضعت يوماً، لتغدو غنيمة زمنٍ ضاع. وقيمة الرسالة رهينة الدرس الذي تجود به، سواء في البُعد الأخلاقي، أو الجمالي، أو الوجودي. ولهذه العلّة كانت الرسائل منازلاً في دروب معراج، لن يعدم أن يحتكم إلى الحنين، لكي يفتتح حملة البحث التي تبدأ كشطحة وَجْدٍ، لتنتهي فوزاً بحقيقة.
الحقيقة؟
وما هو الحبّ، الذي تحاول الرسالة، أيّة رسالة، أن تسوّقه حُجّةً في واقعنا الإنساني الشقيّ، كي تهوّن على ظلال هذا الواقع، التي تثقل كاهل الأرض، كما عبّر الحكيم الكلبي، وزر باطل الأباطيل، إن لم يكن ترجمةً صريحةً للإحساس بالسعادة، التي لن تكون سوى الحقيقة؟
فعندما يغترب الحبّ في عالمنا، لا وجود لترياق يستطيع أن يداوي جراح الروح فينا، سوى هذه التعويذة الإلهيّة، التي حرّضت عليها كل الرسائل المقدّسة، المبثوثة في متون الكتب المقدّسة.
فإذا كان التواصل، رهين تسطير الرسائل، فإن الحبّ هو الفحوى في هذه الرسائل، وهو الذريعة في الحجّ إلى بلاط التواصل. حتّى التمائم، المزبورة في رقوق الجلد، أو في قراطيس الكواغد، أو في ألواح الخشب، التي نسمّيها أحجيةً، هي رسائل للوقاية من الأذى، وأماني محمومة للحماية من الشرور، انتصاراً للسكينة، واستدراجاً لجلالة الحبّ، لكي يكون السلطان الأجدر بالهيمنة على واقعنا. فلا ضمان لوجود عُمقٍ في مشاعرنا، أو حكمةٍ في مسلكنا، ما لم نحقق التوازن في طبيعتنا، كي نشهد ميلاد معجزة الحبّ في واقعٍ هو، من حيث المبدأ، طبيعة. الطبيعة، تلك الأمّ التي نتنكّر لها، ونبيح لأنفسنا ممارسة صنوف التجديف في حقّها، بل وأن نستثمر حضورنا في حرمها، كي تتغلغل فينا، لنتماهى بها، فتسكننا، كما نسكنها، فنتبنَّى حقيقتها، ونتغنّى بطينتها، لتقول فينا كلمتها، لنستطيع أن نبشّر بنبوءتها، فلا تبخل علينا بذخيرتها، لتتحفنا بقرينٍ لنا من لُحمتها، نرى فيه أنفسنا، لنعتمده في ممارستنا مستودع شغفنا، ليغدو، مع الأيام، دليلنا، الذي يرطن بحجّتنا، ويترنّم بلحوننا، ويشتعل بشجوننا، وينازل الأشباح لتيسير شؤوننا، لندرك أخيراً، كم هو ليس شيئاً آخر سوى الـ"أنا" الناطقة بوجداننا، فكيف لا ننصّبه بعد كل هذا معبوداً في وجودنا؟ حتّى إذا عبس الوقت في وجوهنا، وحرمنا فردوس الحضور في ملاذنا، عندما يغترب عنّا، ضاقت بنا الدنيا، لننزف توقاً لاستعادة غنيمتنا، التي دسسنا فيها شوقنا، وآمنّاها على أحلامنا، فإذا بالأقدار تقودها بعيداً عنّا، لتلقّننا درساً عن معنى أن يحيا النسان بلا قرين، قرينٍ اكتشف فيه وطناً، وها هو يفرّ بهويّتنا، بطبيعتنا، بأنبل ما فينا، لنخترع شَرَكَاً هو الخطاب، كي نختلسه من واقع منافيه، لنعيده إلى مرابعنا: خطاب الترجمان فيه اللسان، وصيّةٌ منطوقةٌ بحرف العضلة، ولكن العضلة الماكرة تلاعبت بالوصيّة المشفوعة بنزيف الحنين، عندما جرّدتها من حمّى الحنين، فابتدعنا حجّةً مجسّدةً، لترجمة فورة الشوق في هتملة الحنين. احتلنا على الحجر، فاستودعناه الشجن، لينوب عنّا في شحنة الوصل، ثم اختططنا الوَسم في حطب الشجر، ثم استقطعنا الرقع من جلود الأنعام، قبل أن نهتدي إلى الشّعر، لكي نستنطق في أنفسنا الحدس، لاستدراج مَن أحببنا، إلى حظيرة الحضور، ولم نكن لنفعل، لو لم يكن الطيف الضائع من واقعنا، الـ"أنا" الثانية، كما يليق بما أطلقنا عليه اسم: الصديق!
فكيف لا نلاحقه بأشواقنا، ونطارده بهمومنا، ونطالبه باسترداد ما اغتنمه من روحنا، علّنا نرمّم ما تهدّم من الصروح، الملفّقة من شجوننا، لتكون الرسالة البرهان على تضحيتنا، والرهان على وجود حقيقة في وجودنا؛ لأن إحساسنا بالامتلاء في وجودنا قيد الوجود، رهين متعة حضورنا في واقع هذا الطّيف، الذي جسّد المعنى بوجوده في هذا الوجود.
بالسحر الرسالي، المدعو رسالةً، نسترجع أولئك الذين اغتربوا عنّا، لكي نسترجع، باسترجاعهم، لا وجودهم وحسب، ولكن أرواحهم أيضاً، بل وروحنا، التي استودعناهم!