عندما صارت العولمة حقيقة واقعة في مطلع التسعينيات إثر انتهاء الحرب الباردة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، استبشر كثيرون بأنها سوف تقضي على الحروب والتناحر بين دول وشعوب المعمورة، لكن العالم بدأ يعود القهقرى، عندما بدأت الدول الصناعية الكبرى تتبنى سياساتٍ وطنيةً، مناهضةً للعولمة، ومعيقةً لتقدم الدول الأخرى.
ومثل هذا التوجه الحمائي، الذي كانت الدول الصناعية بقيادة الولايات المتحدة تناهضه، عبر الترويج للتجارة الحرة، وإزالة القيود على حركة التجارة العالمية، تؤكده بيانات الأمم المتحدة، التي تقول إن أكثر من 100 دولة، تشكل 90% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، قد بدأت تتبنى سياساتٍ صناعيةً حمائية، تركز على تقديم الإعانات المالية للمنتجات الوطنية.
الدول الصناعية السبع على سبيل المثال، رفعت الإنفاق على الإعانات المقدمة للمنتجات الوطنية، من 0.6% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2016، إلى 2% عام 2020، أي بزيادة تفوق ثلاثة أضعاف ما كانت عليه سابقا، وكان هذا بدافع مواجهة الانكماش الاقتصادي الذي خلَّفته جائحة كورونا.
فقد خصص الاتحاد الأوروبي جزءا من حزمة الإنعاش الاقتصادي، البالغ حجمها 850 مليار دولار، للإعانات المقدمة للشركات والأعمال. ومع انتهاء القيود التي تسببت بها جائحة كورونا، فإن مثل هذه الإجراءات كان يجب أن تنتهي، لكن الاتحاد مازال مستمرا فيها، ويرى خبراء بأنه يحاكي السياسة الأمريكية الداعمة للإنتاج الوطني.
الصراعات السياسية والاقتصادية العالمية، تركت أثرها على خطط الشركات العملاقة العابرة للحدود، التي بدأت تبتعد عن الصين مثلا، بسبب الشعور السائد بأن الصراع بين الصين والولايات المتحدة وحلفائها، قد يطالها إن أبقت مصانعها ووحداتها الإنتاجية في الصين. بل إن اليابان قدمت تعويضاتٍ ماليةً للشركات اليابانية التي تنقل انتاجها بعيدا عن الصين. وتحاول الهند، التي بدأت تحسِّن علاقاتها مع الولايات المتحدة والدول الصناعية الغربية، أن تستفيد من هذه التحولات الجغرافية للشركات، إذ أعلنت عن تقديم حوافز وتسهيلات إنتاجية بقيمة 26 مليار دولار، على مدى خمس سنوات، للشركات التي تنقل مصانعها ونشاطاتها إلى الهند.
لا شك أن جميع الدول تحاول تشجيع الصناعات المحلية، وتقلص من الاستيراد، ولكن المشكلة، التي توهم كثيرون بأن العالم قد تجاوزها، هي الإجراءات العقابية التي تتخذها الدول الآن من أجل إعاقة تقدم الدول الأخرى. بعض الدول مثل إندونيسيا، مثلا، منعت تصدير عنصر النيكل، الذي يدخل في صناعة بطاريات السيارات الإلكترونية، من أجل تشجيع الإنتاج الوطني لهذه البطاريات، وفي الوقت نفسه إعاقة الدول الأخرى التي تستخدم النيكل الإندونيسي المستورد في صناعة بطاريات السيارات الإلكترونية، كالصين التي تنتج 70% منها.
لكن الغريب أن الولايات المتحدة، التي كانت تقود التوجه العالمي نحو الانفتاح وبذلت جهودا كبيرة لتحرير التجارة من القيود، تلك الجهود التي تكللت بتطوير الاتفاقية العامة حول التعرفة والتجارة، (GATT)، لتحل محلها منظمة التجارة العالمية عام 1995، صارت تقدم الإعانات إلى الصناعات الوطنية، من أجل تقليص الاعتماد على الواردات، خصوصا الصينية منها، وهو إجراء من شأنه أن يلحق أضراراً كبيرة بالاقتصاد الصيني، الذي تحركه الصادرات إلى الولايات المتحدة تحديدا، لكنه في الوقت نفسه يحد من التنافس الذي يضعف الكفاءة الإنتاجية، بل ويضعف حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، مثل كوريا الجنوبية وتايوان.
وبموجب "قانون العلوم والشرائح الإلكترونية" الذي شرعه الكونغرس عام 2022، فقد خصصت الولايات المتحدة 52 مليار دولار، كإعانات مالية مباشرة لتطوير صناعة أشباه الموصلات، التي تراجعت بسبب تقدم الدول الأخرى في صناعتها، خصوصا هولندا، التي تعتبر من أكثر الدول تطورا في تصنيع المكائن والمعدات التي تُصنِّع أشباه الموصلات، وكذلك تايوان وكوريا الجنوبية والصين. ويشرِّع القانون أيضا لتقديم 228 مليار دولار لتحفيز البحوث العلمية في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة الاندماجية.
ولا تنفرد الولايات المتحدة في هذا التوجه الاقتصادي الجديد القديم، الذي يقوم على التنافس القائم على إعاقة تقدم المنافسين بشتى الطرق، فالصين مثلا استثمرت 150 مليار دولار في حقل أشباه الموصلات. بينما أعلنت تايوان، التي تبدو مستاءة من الاستثمارات الأمريكية في هذه الصناعة، عن إعفاءات ضريبية لمصنعي الشرائح الإلكترونية، بهدف تحفيز الإنتاج وجعله مربحا. ولا غرابة في استياء تايوان، التي تتمتع بعلاقة استراتيجية مع الولايات المتحدة، فالاستثمارات الأميركية سوف تؤثر تأثيرا مباشرا عليها، لأن اقتصادها يعتمد بشكل أساسي على تصدير أشباه الموصلات، بل تعتبر أهم مُصنِّعٍ لها.
وتتعرض تايوان إلى تهديدات صينية علنية بضمها بالقوة. وتتوقع مصادر غربية أن الصين قد تُقْدِم على ضم الجزيرة بالقوة بحلول عام 2027، مع قرب انتهاء الولاية الثالثة للرئيس الصيني، شي جينبينغ. ومع التزام الولايات المتحدة رسميا بحماية تايوان، إلا أن إضعافها اقتصاديا سوف يجعلها هدفا سهلا للصين على الأمد البعيد. وقد يدخل احتمال ضم الصين لتايوان، ضمن الحسابات الأمريكية بتشجيع صناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة.
ويقول رجل الأعمال التايواني الأميركي، موريس تشانغ، وهو مؤسس شركة (TSMC)، التي تعتبر من أهم الشركات العالمية لتصنيع الشرائح الإلكترونية المتطورة، في تصريح نقلته مجلة الإيكونوميست، إن "الاستثمار الأمريكي الأخير في أشباه الموصلات سيكون تبذيرا مكلفا للأموال". لكن الولايات المتحدة، وعلى لسان أرفع مسؤوليها، مصممة على البقاء في المقدمة في هذا القطاع، مهما كلفها ذلك.
وعلى الرغم من أن الخشية من الصين، هي المحرك الأساس للاندفاع الأمريكي في هذا المجال، خصوصا وأن الاستثمارات الصينية في هذا القطاع بلغت ثلاثة أضعاف الاستثمارات الامريكية فيه، فإن ارتفاع كلفة العمالة الأمريكية، سوف يجعل صناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة غير تنافسية، لذلك يرى خبراء أن التفوق الأميركي سوف ينحصر في تصنيع الأجزاء المتطورة في هذا المجال، كتصميم البرامج وإجراء الأبحاث المتقدمة.
وقد تبنى الكونغرس الأميركي قانونا آخر عام 2022، هو "قانون خفض التضخم" الذي شرَّع لإنفاق 400 مليار دولار لتشجيع الطاقة النظيفة، وتقليص الاعتماد على بطاريات السيارات الإلكترونية المستوردة من الخارج، ومعظمها من الصين. وهذا القانون، الذي يستهدف الصادرات الصينية بالدرجة الأولى، سوف يلحق أضراراً بكوريا الجنوبية أيضا، التي تصدر بطاريات السيارات الإلكترونية إلى الولايات المتحدة، لأن صادراتها سوف تصنف ضمن البطاريات المصنعة في الخارج.
وانسجاما مع هذا التوجه الأمريكي الحمائي، فقد قدمت حليفتا الولايات المتحدة، أستراليا وكندا، حوافز مالية لتشجيع إنتاج الحديد، الذي يدخل في صناعة بطاريات السيارات الإلكترونية التي تصدرها الصين وكوريا الجنوبية.
ولا تأتي المنافسة من الصين فقط، فالدول الحليفة والصديقة للولايات المتحدة، هي الأخرى رفعت من استثماراتها في قطاع أشباه الموصلات، خصوصا ألمانيا وفرنسا وسنغافورة واليابان. الاتحاد الأوروبي، مثلا، أعلن مؤخرا عن حزمة بقيمة خمسين مليار دولار للاستثمار في الأبحاث العلمية والصناعة في قطاع أشباه الموصلات والصناعات الالكترونية عموما. وحسب بنك (UBS) فإن الإعانات المالية، التي خصصتها سبع دول صناعية لقطاع أشباه الموصلات، على مدى السنوات العشر المقبلة، قد بلغت 371 مليار دولار.
وتدخل أشباه الموصلات والشرائح الإلكترونية في معظم الصناعات الحديثة، من الثلاجات والهواتف إلى المكائن والسيارات والطائرات والأسلحة المتطورة، لذلك فإنها مطلوبة في كل القطاعات في دول العالم، وأن التنافس في صناعتها وتطويرها سوف يزداد شدة بمرور الزمن، إذ أصبحت تشكل أهم مكون في الصناعات المتطورة.
ولا تخفي الولايات المتحدة خططها للتفوق على الدول المنافسة، فقد عبَّر مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، بوضوح عن الاستراتيجية التي تعتمدها بلاده، للبقاء في مقدمة الدول الصناعية. وهذه السياسة تبدأ باستقبال الاذكياء من كل بلدان العالم للعمل والعيش في الولايات المتحدة، "من أجل أن يحتضنوا الابتكار ويرعوه، وأن يعيقوا التقدم التكنولوجي في بلدان مثل الصين وروسيا".
ويرى سوليفان أن "السياسة الصناعية" الأمريكية، التي تقوم أساسا على تقديم الإعانات المالية لقطاعات معينة، تستهدف "تحويل سلسلة الإمدادات بعيدا عن الدول المنافِسة جيوسياسيا للولايات المتحدة، وزيادة القيود على الاستثمارات والصادرات من أجل حرمان الدول غير الصديقة من التكنولوجيا المتطورة".
لا شك أن هذه السياسة، حسبما يرى وزير التجارة في كوريا الجنوبية، تتعارض مع مبادئ التجارة الحرة، التي طالما روجت لها الدول الصناعية وتفاوضت من أجلها خلال العقود الماضية، بل هي تُدخِل دول العالم أجمع في سباق صعب لتجاهل قواعد التجارة العالمية، ما يعني أن نظام التجارة والاستثمار العالمي قد سقط كليا. ويمكن تفهم هذا الموقف الكوري الجنوبي، لأن كوريا الجنوبية هي إحدى الدول المتضررة من السياسة الأمريكية الجديدة، التي لم تأخذ بنظر الاعتبار، على ما يبدو، مصالح حلفائها في آسيا.
المؤسسات المالية العالمية، كصندوق النقد والبنك الدوليين، اللتين تدعمهما الولايات المتحدة وحلفاؤها بقوة، دائما تنصح الدول بتقليص الدعم والإعانات المالية المقدمة للقطاعات المختلفة، من أجل زيادة الكفاءة الاقتصادية، بل تشترط ذلك لتقديم القروض والإعانات لها. فكيف يمكن هذه المؤسسات أن تنصح الدول الأخرى بتقليص الإعانات، بينما لا تتقيد بها الدول الصناعية الكبرى؟
كما تُضعِف هذه السياسة كفاءة وفاعلية المنتجات، التي يعززها التنافس الحر في تقديم الأجود والأقل كلفة للمستهلكين. وما يزيد الأمور تعقيدا، هو أن دولا عديدة في العالم، حليفة للولايات المتحدة ومنافسة لها، بدأت، أو سوف تبدأ قريبا، بتبني هذه السياسة، ما ينذر بتراجعٍ خطير للعولمة، وتقييدٍ لحرية التجارة، وارتفاعٍ للأسعار، بسبب تراجع التنافس الحر بين الدول والشركات.