فالنظام العالمي الذي بات يتشكل من جراء هذه الحرب الواسعة الأثر ها هي تفرز فهماً أعمق عند معقل الليبرالية بل وفي رأسها الذي يفكر فيما آلت إليه حالة الرأسمالية، التكفير العميق الذي جاء عبر كتاب فرانسيس فوكوياما "الليبرالية وسخطها" حمل مراجعة نقدية للسياسات التي أوصلت العالم إلى العتمة والتي لم يعد أحد يستطيع معها التنبؤ بمآلات ما قد يذهب له النظام العالمي.

كان هناك تساؤلات مع الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق حول إن كان يحق للغرب الليبرالي أن يكون حارساً عن تلكم المعتقدات الديمقراطية وإن كان لهم أن يمتلكوا الحصانة لفرضها على الشعوب؟ كانت نظم الحكم في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا ترى أن هيمنة الشركات العابرة للقارات وسياسيات السوق المفتوح والتي أنتجت "العولمة" أنها تجريف لهوياتها الثقافية قبل السياسية ويبدو أن صراعاً دفيناً لم تشعر به الولايات المتحدة التي نصبت نفسها حارسة لقيم الليبرالية وتمكنت عبر اتفاقيات منظمة التجارة العالمية وتمكين صندوق النقد الدولي من إحكام قبضتها على مصير الشعوب حول العالم.

ما كشفته الأزمة المالية عام 2008 كان تنبيها أول لم تتنبه له القوى الغربية أو أنها تعاملت معه باعتباره تعثر عابر، فلقد كشفت تلكم الأزمة أن دولاً ترفض أن تكون في الجلباب الأميركي وأن البطون الخاوية لا يمكنها أن تعيش بالديمقراطية والحريات والمساواة وكل القيم الرأسمالية، ثمة شيء حدث لم تلتفت له واشنطن وتركته وذهبت غير مكترثه حتى جاء عهد باراك أوباما الذي كشف بوضوح أن الولايات المتحدة لن تكترث لما يراه حلفائها أنها التزامات يجب الوفاء بها في تبادل المصالح، عقيدة أوباما شكلت محطة تأكيد على أن العالم يعيش سخط الليبرالية ويتحمل ما بلغته من غلو وتطرف.

فوكوياما صاحب نظرية "نهاية التاريخ" ها هو يستيقظ كما استيقظ الغرب كاملاً من نشوة انتصار الرأسمالية على الاشتراكية، الآن وقد تحرك الدب الروسي مغيراً قواعد اللعبة معيداً الاعتبار لذاته المهانة فمازال ذلك الدب يشعر بإهانة هزيمة السوفيات وتفكيك بلادهم، كما أن التنين الصيني كان استشرف باكراً ما عليه أن يفعل ولا يرهن نفسه لسياسات الغرب فأطلق مسار الحزام والطريق بسياسية اقتصادية تضمن زحزحة الدولار من موقعه ثم لكل حادث حديث فالمطلوب صينياً هذا هو حتى يلتحق الهنود وبقية الاقتصاديات الناشئة المكبلة بسياسات الولايات المتحدة والغرب الخانقة.

التحول حدث فعلياً بسيطرة الحزب الديمقراطي على الليبرالية واقتيادها إلى أبعد نقطة من التطرف اليميني عبر سياسات اعتمدت على توظيف مختلف القضايا لتحقيق أهداف سياسية تكرس السطوة الأميركية على العالم، قضايا حقوق الإنسان والمناخ والطفل وغيرها أخضعت قسراً للسياسة واستهداف كل القوى المحافظة لأجندة تيار واحد يعتقد عبر ما تمتلكه الولايات المتحدة من قوة اقتصادية لتكون سيوفاً مسلطة على الشعوب والدول، هذه السياسة الأحادية خلقت في الداخل الأميركي نفسه انقساماً هائلاً أوصل البلاد إلى حادثة اقتحام معقل الليبرالية في العالم عندما اقتحم أنصار الرئيس دونالد ترامب مبنى الكونغرس في مشهد يؤكد حقيقة أن التطرف سيقابله تطرف مضاد وهذا ما حدث على مستوى العالم تجاه سياسات الديمقراطيين في الثلاثة عقود الأخيرة.

صنع الليبراليون الجدد عبادة الحرية الاقتصادية، وركز التقدميون على الهوية، على العالمية البشرية كمركزية لرؤيتهم السياسية، النتيجة كانت تمزق المجتمع المدني وتفاقم الخطر على الديمقراطية ليس فقط في أميركا بل في العالم، ومع ذلك فإن احتكاراً للرأي العام عرفته الشعوب مؤخراً مع احتكار وسائل التواصل الاجتماعي للأفكار والآراء فلم تعرف البشرية سابقة ببناء إمبراطوريات العابرة لكل الحدود حتى الشخصية بتلك المنصات الإلكترونية التي فرضت على الناس توجهاتهم بل حددت حتى أطعمتهم ومشروباتهم وملبوساتهم وعبر تلكم المنصات يتم إخضاع الشعوب قبل الدول للسياسات الليبرالية المتشددة وكذلك في المقابل تواجه تلكم السياسات بأخرى مضادة من ما زاد من تفكيك المجتمعات وعمق من الخلافات وزاد من التوترات وفتح المجال للحروب والمجاعات.

من المهم التأمل في حقيقة أن إشعال الحروب حول العالم يعطي لصناعات الأسلحة ازدهاراً ومكتسبات مالية ضخمة تضاعف دائماً من قوة الدولار وتضعف العملات الأخرى في الاتجاه الآخر مما يبقي القوة للمركز المالي الأمريكي السيطرة المطلقة، ما تعاني منه الليبرالية لم يعد ملفاً مغلقاً وكان فوكوياما شجاعاً في مراجعته النقدية لما آلت إليه حالتها بعد سنوات من ذلك النصر الغربي التاريخي الذي تحقق في عهدة تاتشر وريغان وبرغم التجربة فأن هنالك إصرار على المضي ناحية تفكيك الاتحاد الروسي على غرار السوفياتي بركوب حصان الليبرالية الجديدة المغلوبة على أمرها.