وفي حين تبدو ملتبسة الأهداف المحددة لهذه المهمة للرأي العام، أو أن هناك من يجتهد ليروج أنها ملتبسة، يشطح البعض ليصورها وكأنها انتهاك لسيادة لبنان بفعل التدخل الأجنبي في قضائه وفرض وصاية خارجية على قصر العدل في بيروت، الذي سيستقبل الوفود القضائية الأوروبية، والذي شهد حملة تنظيف وطلاء وترميم بعد كانت أروقته خرابا ينعق فيها البوم، كما باقي قصور العدل اللبنانية، حيث لا تتوفر المياه والكهرباء.

والمفارقة في عملية التنظيف هذه، أن الأموال اللازمة لها كانت متوفرة قبل زمن بفضل هبة أوروبية، لا يعلم أحد سبب عدم استخدامها لهذه الغاية في حينه. ولعل الخوف من الفضيحة، هو ما حفز على ترقيع ما يمكن ترقيعه عشية وصول الوفود، وستر الاهتراء المتجذر في السلطة القضائية.

وانطلاقا من هذه الواقعة الهامشية المتعلقة بالنية المبيَّتة لنهب الهبة المالية، لولا الاضطرار، يمكن القياس وتوسيع الدائرة عن دور القضاء في لبنان ومدى استقلاليته ونزاهته.. أو تورطه في التستر على ملفات لو كُشِفت خفاياها، وتم السير فيها إلى منتهاها لأمكن تجنيب اللبنانيين الكثير من الويلات المتعلقة بالفساد وسرقة المال العام، بما يرتبط بالجرائم الصغيرة التي يرتكبها المحميين من أحزابهم ومراجعهم، وصولا إلى الجرائم الكبيرة لأهل المنظومة من سياسيين يتحايلون على القوانين لتغطية ارتكاباتهم. ولا يمكن وضعهم أمام القضاء الجنائي او المالي لأنهم يحتمون بمناصهم التي تمدهم بالحصانة.

ومع الانهيارات المالية المرافقة لسياسات نقدية مشبوهة تجاوز الضرر الحدود اللبنانية ليصل إلى المصارف الأوروبية، اضطرت الأجهزة القضائية للدول المتضررة إلى التحرك، وذلك لأن السلطة القضائية لم تتدخل مع تحوِّل لبنان تدريجيا إلى ساحة مفتوحة ومشرّعة لتبييض الأموال، لا سيما من خلال التركيز على التداول بالعملات نقداً، وليس عبر الحسابات المصرفية، وبمبالغ ضخمة غير مبررة مصادرها، كما يجب ان تكون الأمور عليه، أسوة بالأنظمة الوقائية لمنع تبييض الأموال في كل دول العالم، مع استفحال الأزمة النقدية بفعل سرقة أموال المودعين بعد سرقة المال العام لتمويل الفساد، ولأن هذه الساحة شكلت عاملا جاذبا لكل الخارجين عن القوانين المالية للتداول في الكسب المالي غير المشروع، بالتالي كان لا بد لمن تضرر في الدول الخارجية أن يسارع إلى التحرك باتجاه لبنان، للتحقيق في وجود تأثيرات سلبية على النظام المالي في دوله، وذلك بغية وضع ضوابط تحمي مصارفه ونظامه من الفوضى والفساد والجرائم المالية.

ففي هذه الدول، القضاء هو الأساس، والتدخلات السياسية فيه لا تشبه بالتأكيد ما يحصل في لبنان، سواء لجهة تعيين القضاة من المحسوبين على هذا الطرف السياسي أو ذاك، او لِشلِّ عمليات المحاسبة والمساءلة داخل الجسم القضائي، أو لإطلاق يد قضاة من أصحاب الحظوة في فتح ملفات كيدية تخدم جهات سياسية بعينها، أو لمنع تشكيلات قضائية، لأنها تمس بقضاة قصور المسؤولين وليس قصور العدل، وتحديدا خلال ولاية الرئيس السابق ميشال عون، حيث كانت تجري هذه المخالفات القانونية والدستورية في العلن.

وليس قدرا أن يتواصل إفقار اللبنانيين بحجة الدفاع عن السيادة من مؤامرات الغرب، في حين يتحرك كل متضرر من الدول الأوروبية عبر القضاء لحماية نظامه المالي.. فالسيادة لا يمكن أن تصبح قميص عثمان عندما يتعلق الأمر بالجرائم المستعصية على العدالة..

العلة في القضاء.. ومتى استقامت السلطة القضائية، وتم رفع القبضة السياسية الفاسدة عنها، لن تتضرر دول خارجية.. والأهم ستوقف الضرر الذي يكابده الشعب اللبناني.. وبالتأكيد سيتغيَّر قدره نحو الأفضل.