على غرار كل الاحتجاجات السابقة التي اندلعت في إيران، كان النظام يتوقع أن تحركات الشارع ستخبو بسرعة، وأنه يمتلك أدوات إخمادها، بالطريقة الوحيدة التي توفرها الأدبيات السلطوية الحاكمة وهي القبضة الأمنية، لكن الاحتجاجات توسعت وانتشرت إلى مدن إيرانية كثيرة، وارتفع سقف مطالبها، من المطالبة بإلغاء إلزامية الحجاب (وهو مطلب نسوي مجتمعي) إلى المطالبة بإسقاط النظام الحاكم منذ العام 1979. وفي الانتقال السريع من المطالبة بإلغاء إلزامية الحجاب إلى رفع شعار إسقاط النظام، بون شاسع أثبت أن الشعوب الإيرانية استنفذت كل إمكانيات الصبر على نظام استهلك بدوره كل إمكانيات البقاء، داخليا وخارجيا.

الجديد في هذه الاحتجاجات النسوية الإيرانية، التي تحولت سريعا إلى احتجاجات شعبية تعني مختلف فئات المجتمع، أنها جاءت في سياق دقيق يمر به النظام الإيراني الواقع في قلب أزمة تتضافر فيها الملامح الاقتصادية الداخلية مع جبل من المشاكل الإقليمية والدولية التي تورط فيها نظام طهران.

وإضافة إلى ذلك فإن الملاحظ أن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإيرانية أصيبت بارتباك واضح بعد أن صوبت الثورة المستمرة منذ 16 سبتمبر الماضي، نحو النواة الأيديولوجية والرمزية للنظام، بدءا باستهداف رمز الثورة الإسلامية، الخميني، وصولا إلى المرشد الأعلى، مرورا بكل الشخصيات الرمزية والعقائدية التي يتكئ عليها النظام في تسويق مقولاته وفي تصدير ثورته.

لذلك لم يكن التعامل الأمني الصارم مع الاحتجاجات مثلما حصل مع الاحتجاجات السابقة، (احتجاجات الحركة الخضراء عام 2009، واحتجاجات مهاباد بولاية أذربيجان الغربية ذات الأغلبية الكردية عام 2015، إضافة إلى الاحتجاجات التي لا تتوقف في محافظة خوزستان حيث تقطنُ الأقلية العربية الأحوازية)، كافيا أو ناجعا لإيقاف غضب الشوارع، ولم تنفع التنازلات التي قدمها النظام من قبيل إلغاء دوريات الأخلاق التابعة للشرطة الإيرانية، وهي تنازلات لم تنبع من تفهم رسمي إيراني لدواعي الاحتجاجات، بل نتجت عن الضغوط الدولية التي انهالت على إيران بعد تصاعد أعداد القتلى والموقوفين على خلفية الاحتجاجات الشعبية.

الواضح إذن أن هذا الحراك الشعبي الإيراني يختلف، جذريا، عن كل الاحتجاجات السابقة، أولا لأنه استهدف جذور النظام ورموزه الأيديولوجية، وثانيا لأنه توسّع وامتد على عدد كبير من المدن والمحافظات الإيرانية، وثالثا لأنه وعد بأن يستمر ويجذر شعاراته السياسية بعد انقضاء أكثر من 100 يوم من الاحتجاج المتواصل في الشوارع الإيرانية.

احتجاجات الشارع أصابت النظام الإيراني بخدوش في كبريائه، حين مست رموزه وتجاسرت على المرشد والمؤسس، وكان استمرار الشارع في الاعتمال يقابلُ باستمرار النظام في ممارساته القمعية والدليل على ذلك ارتفاع إعداد الموقوفين الذين تواجه بعضهم أحكاما بالإعدام.

وما يجعلُ الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة مختلفة عن سابقاته الكثيرة، هو أنها صوبت رأسا نحو بنية النظام الإيراني، وكان الشعار الرئيسي للاحتجاج "مرأة، حياة، حرية"، الذي يعلنُ في ظاهره دعوة للمساواة، يضمرُ أيضا موقفا قويا وحاسما ضد الأصولية الدينية التي تحكم بلادا أصابتها الثورة الإسلامية بانسداد الشرايين. المفارقة أن النظام الإيراني لم يتعامل مع الاحتجاجات إلا بغاية واحدة هي التفرغ للقضايا الخارجية وهي كثيرة ولا تقتصر على مشاكل طهران مع محيطها، بل تمتد إلى الخلاف النووي، لتصل إلى مشكلة جديدة مع من كان يفترضُ أنه حليف قوي لطهران، وهو الصين، التي عبر رئيسها، شي جين بينغ من المملكة العربية السعودية، بأن إيران لا تشكل شريكات مطمئنا للصين في ظل مواصلتها التلاعب بملف الاتفاق النووي وعرقلة أي تقدم ممكن.

الواضح أن الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة كشفت أننا إزاء إرادتين: إرادة نسوية وشبابية تجاوزت مطلب إلغاء إلزامية الحجاب، وتجاوزت المطالب الاقتصادية والاجتماعية، لتطرح مطلبا حاسما وأكثر جذرية وهو إسقاط النظام برمته. مقابل إرادة رسمية استنفذت كل وسائلها الدعائية والأمنية والقمعية، ولم تعد المدونة الأيديولوجية الأصولية التي شيد فوقها نظام إيران مواقفه السلطوية (من نوع مقاومة الاستكبار ونصرة فلسطين وغيرها) صالحة لإقناع الشباب الجديد الذي يقارن وضعه بوضع أقرانه في المحيط العربي الإسلامي.

وإذا كانت الاحتجاجات الأخيرة هي من نوع الثورات الثقافية التي يصعبُ إخمادها أو تدجينها، أو مقايضتها ببعض التنازلات، فإنها مدعوة اليوم (أي الاحتجاجات) مدعوة لاستقطاب طبقات التجار والعمال والفئات الوسطى من المجتمع الإيراني لكي تتحول إلى ثورة كاملة الأركان: بشعارات سياسية واضحة، وبامتداد شعبي وجغرافي واسع، وبأهداف محددة، وبالاعتماد على وسائل حديثة تمكن الفاعلين من كسر الحجب والحظر وتكميم الأفواه.

الثابت أن النظام الإيراني راكم طيلة السنوات السابقة الكثير من العداوات، حيث عادى كل مكونات جواره ومحيطه الإقليمي، واستهدف شعوبه من عرب وأكراد وتركمان وأرمن وبلوش وغيرهم، ثم دخل في عداء جديد مع فئات حيوية من الشعب الإيراني وهي فئات الشباب والنساء، وهو يصل اليوم هذه المرحلة منهكا وخائر القوى من حصيلة السنوات الماضية، فضلا عن كون هذه الاحتجاجات أدركت أن المطالبة بإصلاحات مجتمعية بسيطة، لن تكون سوى عمليات تجميل للواقع الإيراني، ولذلك ذهبت مباشرة لأصل الداء وهو البنية الأيديولوجية والسلطوية للنظام، ولذلك طالبت برحيله يقودها في ذلك وعي سياسي بأن إسقاط النظام هو الحل الوحيد لحل كل المعضلات الاقتصادية والمجتمعية والثقافية المتراكمة منذ عقود في إيران.

ولن يكون بوسع نظام طهران أن يحارب على جبهات داخلية وخارجية كثيرة في وقت واحد، وإذا كانت الضغوط الخارجية قد أنهكت النظام من الناحية الاقتصادية، فإن الجبهة الداخلية وامتداد الاحتجاجات على أغلب الجغرافيا الإيرانية ستكون أكثر خطورة على قدرة النظام الإيراني على الاستمرار وعلى تقديم التنازلات والمناورات. ولعل الأيام والأسابيع القادمة ستكون في صالح الاحتجاجات إن استمرت بنفس الوتيرة والجذرية، وستضع نظام طهران في مأزق داخلي وخارجي بين خيارين أحلاهما مر: إما قمع الاحتجاج ما سيثير الامتعاض الدولي ويزيد من توسيع نار الغضب الشعبي، أو تقديم التنازلات التي سيبدو من خلالها ضعيفا ومتهالكا. فعلي أي ساق سيرقصُ النظام الإيراني في مواجهة غضب شعوبه.