بهذا الصدد، تبدو أجواء التحولات هذه شبيهة بتحولات سوق الطاقة بعد حرب تشرين (أكتوبر) في 1973 بين مصر وسوريا من جهة وإسرائيل من جهة أخرى. قادت هذه الحرب وتفاعلاتها السياسية إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار النفط على مدى فترة طويلة. فعلى سبيل المثال، كان سعر برميل النفط بحدود 3 دولارات قبل الحرب (أي ما يقارب 17 دولاراً بأسعار اليوم) ليتضاعف بحدود 4 مرات في خلال شهرين ونصف، بين أكتوبر 1973 ويناير 1974 ليصل إلى نحو 12 دولاراً (بحدود 72 دولاراً بأسعار اليوم).

كان المشهد الأبرز والأسرع لهذا الارتفاع هو الطوابير الطويلة للسيارات، خصوصاً في الولايات المتحدة، للحصول على الوقود في محطات التعبئة واضطرار الحكومات الغربية لتقنين بيع الوقود. قاد هذا الارتفاع المفاجئ وغير المسبوق إلى بروز التضخم وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية الأخرى بنسب كبيرة. شهد الاقتصاد العالمي حينها ركوداً واضحاً تطلب الخروج الكامل منه بضعُ سنوات. دشنت هذه الأزمة النفطية مرحلةً جديدة على عدة صعد لجهة تقنين استخدام النفط والبحث عن مصادر بديلة له، فضلاً عن التكيف مع الأسعار الجديدة واحتمالات الشحة المقبلة في سوق النفط. تراجع مثلاً الإقبال على السيارات التي تصنعها الشركات الأميركية، بأحجامها الأكبر ومميزات الرفاهية الأكثر فيها، لصالح منافساتها الألمانية واليابانية التي كانت تصنع سيارات عملية أصغر حجماً لكن أقل استخداما للوقود من السيارات الأميركية الفارهة. احتاجت الشركات الأميركية بضع سنوات لتعلم الدرس جيداً كي تصنع سيارات اقتصادية وعملية تنافس مثيلاتها الأوروبية والآسيوية.

لجأت الولايات المتحدة أيضاً لإنشاء الخزين النفطي الاستراتيجي في 1975 بسعة لخزن 714 مليون برميل في صهاريج تحت الأرض، نصفها تقريباً مليئة بالنفط. يُستخدم بعض هذا الخزين لتخفيف وطأة أوقات الشح النفطي وارتفاع الأسعار، كما فعل الرئيس الأميركي جو بايدن بعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا بإطلاقه نحو مليون برميل يومياً من هذا الخزين. قادت أزمة 1973 أيضاً إلى نمو القطاع النفطي المحلي الأميركي وزيادة انتاجه، فضلاً عن المزيد من البحث عن مصادر الطاقة البديلة للنفط كالفحم والأنواع المختلفة للطاقة النظيفة. لكن يبقى التطور الأهم الذي نتج عن الأزمة هو تحول النفط من سلعة اقتصادية بالدرجة الأولى إلى أولوية مهمة في الأمن القومي الأميركي خاصةً والغربي عامةً على مدى العقود التالية. عنى هذا التزاماً غربياً بتأمين طرق الملاحة البحرية في الشرق الأوسط، خصوصا في منطقة الخليج، لضمان تدفق إمدادات النفط حفاظاً على استقرار نسبي لسوق النفط ومنع الاقتصاد العالمي من الانزلاق نحو أزمات التضخم والركود العميقة. ما يزال هذا الالتزام الغربي قائماً، حتى مع التراجع التدريجي لكميات النفط القادمة من الشرق الأوسط مع تنوع مصادره ودخول منافسين جدد في أنحاء مختلفة في العالم كما في شركات النفط التي تنتج النفط الصخري.

تشبه كثيراً أزمة الطاقة الناشئة عن اندلاع الحرب بين أوكرانيا وروسيا أزمة الطاقة الناشئة عن حرب تشرين، إذ قادت الحرب في القارة الأوروبية إلى شح النفط في السوق العالمية بعد العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا لمنعها من الاستفادة من مصدرها المالي الرئيسي: النفط ومنتجاته الغازية، خصوصاً تلك المْصدرة لأوروبا. تسببت العقوبات بارتفاع كبير في أسعار الوقود في أوروبا، وعلى نحو أقل في أميركا، لتظهر بدايات ركود اقتصادي عالمي تحاول الولايات المتحدة وأوروبا الغربية منع بروزه واتساعه. لكن التطور الأهم جراء الأزمة الأوكرانية-الروسية لحد الان هو تعميق سريع لأحد نتائج أزمة 1973 المتعلق بالاهتمام بالطاقة النظيفة والمتجددة. تسارع هذا الاهتمام واتسع كثيراً بعد الحرب في أوكرانيا، خصوصاً في سياق الهدف العالي المستوى الذي وضعه الاتحاد الأوروبي لنفسه في شهر مارس الفائت بالتخلي عن ثلثي استيرادات دوله من الغاز الروسي بنهاية هذا العام وصولاً الى التخلي تماماً عن هذه الاستيرادات قبل عام 2030.

تتضمن الخطة الأوروبية على المدى القصير الحصول على الغاز من مصادر أخرى غير روسية، كاليابان وكندا والجزائر، لكن الطموح المهم، والتحدي الكبير أيضاً، فيها يكمن في ما تسعى الخطة لتحقيقه على المدى البعيد: الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة بدلاً من النفط. تشمل هذه المصادر الطاقة الشمسية والرياح فضلاً عن غاز الميثان الحيوي الذي يمكن الحصول عليه من تحلل المواد العضوية كالأطعمة والحيوانات النافقة والنباتات الميتة والفضلات العضوية. ثم هناك العمل الجاري منذ عقود على استخدام الاندماج النووي لتوليد طاقة نظيفة من دون مخلفات اوكسيد الكاربون والنفايات النووية التي يصعب التخلص منها. أحرز الأميركيون مؤخراً تقدماً لافتاً بهذا الصدد عندما نجحوا٬ بحسب آخر تجربة جرت في أحد مختبراتهم النووية في ولاية كاليفورنيا٬ بإنتاج طاقة كهربائية بمقدار عال نسبياً يمكن زيادته مستقبلاً لجعل استخدامها تجارياً ومن دون ترك مخلفات نووية أو أوكسيدية. لكن ما يزال أمامهم تحديات جدية تتمثل بصناعة المكائن التي يمكن أن تُولد هذه الطاقة وربطها بشبكات الكهرباء. سيستغرق التغلب على هذه التحديات سنوات، لكن مع الإنفاق الغربي المتزايد على البحوث والتجارب المرتبطة بإنتاج طاقة نظيفة ومتجددة واعتبار إنتاج مثل هذه الطاقة جزءاً من الأمن القومي الأميركي، لن يكون النجاح بعيداً.

ربما هذا هو الدرس الأهم من الحرب الأوكرانية-الروسية: إيجاد بديل عن النفط يعتمد عليه، يمكن إنتاجه في الغرب من دون الحاجة الى الاعتماد على مصادر غير غربية. تطور كهذا، يبدو ممكناً في خلال العقد الحالي خصوصاً إذا استمر النزاع الأوكراني-الروسي على مدى فترة طويلة مقبلة، سيغير وجه سوق الطاقة في العالم على نحو جذري، لتتغير معه موازين القوى السياسية والاقتصادية في أنحاء كثيرة في العالم، بينها الشرق الأوسط. تبني خطط تنموية طموحة لتنويع مصادر الدخل الاقتصادي وتقليل الاعتماد على النفط هو الطريق الصحيح عربياً لمواجهة مثل هذه التحولات في سوق الطاقة.