قد يُقرأُ الخبر على أنه تحول نوعي تجريه تركيا في موقفها من جماعة الإخوان، خاصة وأن أنقرة لطالما عرفت بكونها أحد أكبر الداعمين للتنظيم المصنف إرهابيا في الكثير من الأقطار العربية، لكن التمعن في دوافع الخبر وحيثياته قد يحول الحدث الأخير من درجة القطيعة مع الإخوان، إلى مستوى المناورة التي تجريها أنقرة بحثا عن مصالحها في المنطقة.

منذ فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات التشريعية في العام 2002 تكوّن ضرب من الارتباط بين تركيا الرسمية وجماعة الإخوان، تبعا لأن حزب العدالة والتنمية- سليل حزب الفضيلة الإسلامي الذي كان يرأسه نجم الدين أربكان- كان يتبنى مرجعية إسلامية إخوانية رغم إصراره على تقديم نفسه كونه حزبا ديمقراطيا محافظا. وبالتدريج تحولت أنقرة إلى معقل للعناصر الإخوانية من شتى أنحاء العالم، مثلما تحولت جماعة الإخوان إلى المساند الأيديولوجي الأول للحكم التركي، وكان هذا التخادم بين تركيا والجماعة الإخوانية، يمتد على أبعاد كثيرة تتفاوتُ من السياسي إلى الفكري والأيديولوجي، وصولا إلى التأثير على المواقف الدبلوماسية لتركيا من دول محيطها العربي والإسلامي، حيث كانت أنقرة تعادي كل الأقطار التي تتخذُ مواقف حاسمة من الخطر الإخواني.

وطيلة سنوات طويلة كانت أنقرة تقدم ارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين على مقتضيات علاقاتها الدولية، وعلى مصالحها في الإقليم وفي المنطقة، وكانت على استعداد للتخلي عن كل أجوارها وحلفائها لمجرد تناقضهم مع الأطروحات الإخوانية، والحقيقة أن هذا الرهان المكلف على الإخوان، لم يكن نابعا عن خصومات سابقة مع الأقطار العربية، أو الأوروبية، بل هو مترتب عن كون الحزب الحاكم، وزعيمه نفسه، يتكئ على مدونة إيديولوجية إسلامية، تلتقي فيها الحركية الإخوانية مع الطموحات التوسعية التركية التي كانت تدعي "مشروعية" تاريخية قائمة على ضرورة إعادة إحياء الخلافة الإسلامية.

على أن هذا التخادم التركي الإخواني، لا يخفي مسألة دقيقة تكمنُ في أن حزب العدالة والتنمية، راوغ الأوساط السياسية والفكرية التركية حين روّجَ لمقولة (وجدت هوى لدى التيارات الإسلامية) أنه يمكن نشر الأفكار الإسلامية في نظام ديمقراطي يعتمدُ الانتخابات والمشاركة في المؤسسات السياسية والقضائية والمجتمع المدني، فضلا عن نشر أفكار تقول إن القيم والأخلاق الإسلامية، هي التي ستتيح محاربة الفساد والمحسوبية، وبذلك نجح حزب العدالة والتنمية أولا في مراوغة القوانين العلمانية التركية الصارمة، وتوفق في إقناع الرأي العام التركي بأنه لا يتناقضُ مع الإرث الأتاتوركي العريق التي تفخر به تركيا، كما نجح في مد الجسور مع الأحزاب والتيارات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، وأقنعها بأنه يمكن صنع "نجاح" سياسي واقتصادي وترويج المبادئ الإسلامية في السياسة دون الحاجة إلى إعلان "دولة إسلامية"، فمثلت تركيا بذلك "قصة نجاح" مبهرة للتيارات الإسلامية، كونها اتكأت على مرجعية إسلامية دون إعلان دولة إسلامية.

تضافرت الأسباب الفكرية والأيديولوجية والسياسية، لتجعل من تركيا أحد أكبر رعاة جماعة الإخوان المسلمين، إضافة إلى قطر، وجاء مفصل العام 2011 الذي بدأت معه الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، والذي أفرز صعودا لافتا للفروع الإخوانية في الكثير من الأقطار العربية، لتتبوأ تركيا صدارة الداعمين للإخوان في هذه الأقطار، ما وضعها في خلافات سياسية مع الكثير من هذه الأقطار، فضلا عن خلافات سياسية عميقة مع أقطار عربية وازنة، قدرت- مبكرا- خطر الإخوان المسلمين على المنطقة العربية بأسرها. اضطرت تركيا في دفاعها عن الإخوان المسلمين، إلى أن تخلع جلباب سياسة "الصفر مشاكل" وكأنها ضحت بعلاقاتها مع محيطها العربي الإسلامي، ومع امتداداها الاستراتيجي، مقابل الإبقاء على أواصر علاقاتها مع الجماعة التي يتقاسم معها الحزب الحاكم في تركيا الكثير من المناهل الفكرية.

لكل هذه الأسباب، مجتمعة، كان الإعلان الأخير عن التحقيقات التي بدأتها المخابرات التركية مع عناصر إخوانية، بمثابة مفاجأة للمتابعين، وبمثابة زلزال للعناصر والجماعات الإخوانية. لكن هذه المفاجأة في تقدير المتابعين، والصدمة في أوساط الإخوان، لا تمنع التساؤل عن حقيقة هذا التحول التركي، وعن مدى صدقيته، أو تواصله في المستقبل، وهل هو تحول استراتيجي أم مجرد ثمن فهمت أنقرة أنه عليها أن تسدده مقابل مصافحة مهمة جمعت رجب طيب أردوغان بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أواخر شهر نوفمبر الماضي، أثناء افتتاح كأس العالم لكرة القدم التي أقيمت في قطر. المصافحة التي جمعت الرئيسين تجري تحت أنظار أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، تداولتها وكالات الأنباء بوصفها دالة على إمكانية عودة الدفء بين العواصم الثلاثة التي طالما تبادلت مختلف عبارات الخصومة، وكلها نابعة من قضية الجامعة الإخوانية.

مهم التذكير هنا أن تركيا بدأت منذ سنوات قليلة، مد جسور التواصل مع المملكة العربية السعودية، ومع مصر، تُوجت بالزيارة التي أداها أردوغان إلى السعودية أواخر شهر أبريل الماضي، والتي وجه خلالها الرئيس التركي رسائل دافئة إلى الفاعلين الرئيسيين في المنطقة: مصر والسعودية. ومنذ إعلان أردوغان- من الرياض- عن استعداده الكامل لتطبيع العلاقات مع محيط بلاده الإقليمي، بدأت القيادات الإخوانية المقيمة في تركيا والتي وفرت لها أنقرة الحماية والدعم طيلة سنوات العداء بين أنقرة وأكبر القوى الإقليمية في المنطقة، في الاستعداد لإحصاء خسائرها. الواضح هنا أن أنقرة استشعرت الكلفة الاقتصادية الباهظة للعداوة مع محيطها، وقدرت أيضا أن "الدافع" الأساسي غير ذي أهمية مقارنة بما أنتجه من خراب اقتصادي ودبلوماسي وعزلة دولية. نتحدث هنا عن مقارنة بين دعم الإخوان وبين ما أنتجه من قطيعة عاشتها أنقرة وتلمست نتائجها.

تحسب أنقرة خطواتها السياسية الراهنة بميزان المصلحة الاقتصادية أولا، وبالمصلحة السياسية ثانيا، وقدرت أن لا مخرج للأزمة التي تمر بها إلا بالتقاط أي فرصة للمصالحة مع مصر ومع السعودية والإمارات، بعد أن عبثت طيلة سنوات الربيع العربي بالخرائط العربية في ليبيا وسوريا وغيرها من الأقطار، وبعد أن حفرت الكثير من الأخاديد السياسية والمجتمعية الغائرة في أكثر من قطر عربي وهي أخاديد تحتاج عقودا من الترميم والعلاج.

ومع كل ذلك يجوز طرح سؤال مشروع: هل يمكنُ الاطمئنان إلى هذه الخطوة التركية الأخيرة؟ وهل أن هذه التحقيقات التي بدأتها أنقرة مع عناصر إخوانية، ستكون مقدمة لفك الارتباط بين الدولة والجماعة؟ أم هي مجرد ثمن تقدمه أنقرة مقابل مصافحة محورية تعرف تركيا أن خراجها سيكون كبيرا على المستويين الاقتصادي والسياسي.

الثابت أن الأيام السياسية القادمة ستختبر مدى صدقية هذه الخطوة التركية، خاصة وأن دروس السنوات الماضية أكدت أن تركيا عبرت في مناسبات كثيرة عن استعدادها لمد جسور التواصل مع العواصم العربية، دون إجراء تحول حقيقي وعميق في القضايا المفصلية وعلى رأسها تبني تركيا الاستراتيجي لجماعات الإرهاب وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. يذكرُ أن سامح شكري وزير الخارجية المصري قال في شهر مارس الماضي تفاعلا مع تصريحات دافئة أطلقها أردوغان ووزير خارجيته مولود جاويش أوغلو تجاه مصر والسعودية، "الأقوال وحدها لا تكفي. لابدّ أن تكون الأقوال مقرونة بأفعال"، وهو ما يعني أن هذه الخطوة الأخيرة، يمكن أن تتحول إلى ذر رماد على العيون، إذا لم تُصحب بمواقف سياسية عميقة تجاه الجماعة برمتها، وإذا لم تشفع بمراجعات سياسية وفكرية تجريها أنقرة داخل الخطاب السياسي الذي تتبناه، فضلا عن ضرورة التوقف النهائي عن التدخل في شؤون الدول الأخرى، وهو ما يبدو غير ممكن التحقق في ظل تلويح تركيا بالتدخل البري في سوريا بتعلة ملاحقة الخطر الكردي.

وفي عمق الموضوع مساع تركية واضحة لترميم مسيرة السنوات الماضية من التدخل في شؤون الدول الأخرى، ومن التحريض على الأقطار العربية التي أعلنت موقفها بوضوح من الإخوان، ولاشك أن الصداع الاقتصادي أضاف دوافع أخرى لاقتناع أنقرة بأن الحلول لا تأتي من غير المحيط العربي الإسلامي، وبعد أن فشلت التصريحات الودية التي أطلقت منذ العام 2020 في إذابة جليد العلاقات مع العرب، اضطرت أنقرة إلى الوسيط القطري الذي نجح في تحقيق المصافحة لكنه لن ينجح في تعبيد الطريق بين القاهرة وأنقرة، إلا باستجابة الأخيرة إلى الشروط المصرية وهي شروط معروفة تقتضي من تركيا أن تصوغ خارطة طريق محددة لمسار تطبيع العلاقات مع العرب، ذلك أن القاهرة والرياض وأبوظبي تتقاسم نظرة واحدة شاملة في ما يخص الأمن القومي العربي.

الثابت أن القاهرة لا تقرأ المصافحة بين السيسي وأردوغان بنفس الحماسة التي تروج في وسائل الإعلام التركية التي سارعت إلى العزف على وتر الاقتصاد، (وكالة الأناضول الرسمية التي تعبر عن التوجه الرسمي التركي نشرت تقريرا بعنوان "تطبيع العلاقات التركية المصرية قد يخلق آفاقًا اقتصادية جديدة"). لن تتنازل مصر عن سقف محدد قوامه الكف عن التدخل في شؤونها، والتوقف الفعلي عن استثمار الورقة الإخوانية، والخروج من ليبيا التي عاثت فيها أنقرة فسادا وتخريبا، وحل مختلف المشكلات في شرق البحر المتوسط. وهذه المحاور مجتمعة هي السقف الذي لن تنزل القاهرة تحته، وهو ما يجعلها تراقب مدى صدق المواقف التركية الأخيرة، ومنها التحقيقات التي دشنتها المخابرات التركية مع عناصر إخوانية. وبهذا المعنى يصبح الحدث الأخير مجرد مبتدأ ينتظر الخبر لكي يتحول إلى جملة سياسية سليمة.