(مداخلة المؤلف في ندوة باريس «نحن والآخر» المنعقدة في الفترة من 8 إلى 10 ديسمبر 2022 بمبادرة من المعهد الأوروبي للدراسات الإبستمولوجيّة)
نحاول دوماً أن نحتال على اللغة، ولكن اللغة تأبى إلّا أن تنتقم منّا، عندما نخذلها، بالإقدام على استخدام تعبير «الأغلبية» في حق مجتمع مسكون بـ«أقليّة»، سواء أكانت ثقافية أو دينية، بدل انتداب تعبير «الأكثرية»، كما يقضي المنطق. ولكن حتى هذا التجديف في حقّ اللغة لا يشفي غليلنا، فيروقنا أن نضيف لكلمة «الأغلبية»، المستعارة من معجم الأهواء التي تسكننا، صفة أخرى عدوانية هي «الساحقة»، لكي نُطمئِنَ أنفسنا على حقيقة هيمنتنا، بل لاستنزال الحقّ في اغتصاب هيمنتنا على واقعٍ لا تعود فيه «الأقلية» الشقيّة شريكاً، ولكنها تتحوّل فيه ضحيةً، بحكم نيّة نستبسل كي نخفيها، ولكن منطوق اللغة يفضحنا، فلا نستحي من الاحتكام إلى ساحة المغالبة، التي نستعير منها مفردة كـ «الأغلبية».
فاللغة هنا قراءة مجانية في الأعماق. استجلاءٌ لما استخفى في اللاوعي، ليعبّر فعليّاً عن غياب الإيمان بأيّ صُلح، في العلاقة مع الآخر، المدعو هنا أقليّة. أي أنه رفض ضمنيّ لأيّ اعتراف بوجود حقوق للأقليّة، كالمطالبة بوجوب تصحيح وضعها كأقلية تهفو للحصول على مساواة، لأن مفهوم الأغلبية، هو تسليمٌ بهوية الأغلبية كـ غالب، في صفقةٍ، الأقلية فيها الطرف المغلوب، بحكم سلطة اللغة، التي هي سلطة الوجود، التي قضت باستنزال لعنة كامنة في ملفوظة متواضعة هي ماهية «أقلية»، وقبولها كقدر مستنزل بحكمة خالق، وليست مجرد جبر جائر من حبك مخلوق، لا يستحي أن يتغنّى في أدبيّاته برذيلة كالغلبة!
فالدسيسة إنّما تسكن طبيعة الأغلبيّة، كنزعة عدميّة، كما يلقّنها لنا سدنة الحقيقة، في محكمة الحكمة:
ـ «الأرذال، في وجودنا، دوماً أغلبيّة» (بيانت ـ القرن السادس قبل الميلاد).
ـ «الأغلبيّة شرٌّ» (بيانت) القرن السادس ق ـ م «أحد الحكماء السبعة».
ـ «لا ينبغي لنا أن نحكّم في أنفسنا رأي الأغلبية، ولكن رأي الإنسان العليم بما هو حقّ، وما هو باطل، لأنه ينطق بلسان الحقيقة، (سقراط) القرن الخامس ق ، م.
ـ «في حال اكتشفت وجودك في موقع الأغلبية، فتلك حجّة كافية على ضرورة تحويل وجهتك» (مارك توين) القرن التاسع عشر.
ـ «يحدث أيضاً أن تحقّق الأغلبيّة غلبةً على الأفضليّة» (تيتوس ليبيوس) القرن الأول قبل الميلاد.
ـ «لماذا اعتدنا أن نسير في ركاب الأغلبيّة؟ هل لأنها الأحقّ؟ كلّا! لأنها الأقوى!» (بليز باسكال) ـ القرن الثامن عشر.
ـ رسالة الحياة ليست في اعتناق دين الأغلبيّة، ولكن في الحرص على اعتماد الضمير كمرشد في الحياة» (ماركوس أوريليوس) القرن الأول للميلاد.
ـ «الأغلبيّة تمتلك في حُجّتها السلطة، ولكن ليس الحقّ: الحقّ من نصيب الأقليّة دوماً» (إبسن) القرن التاسع عشر.
ـ «الأغلبيّة لم تكن يوماً عادلة» (ديلّلون).
ـ «الضلال لا يفقد هويّة الضلال، لمجرّد أن الأغلبية تعتنقه كأسلوب حياة» (تولستوي) القرن التاسع عشر.
ـ «ما هي الأغلبيّة؟ الأغلبيّة جنون. العقل من نصيب الأقليّة وحدها». (شيلّلر) ـ القرن الثامن عشر.
ـ «أخطر عدوّ للحقيقة، وللحرية، هو وجود الأغلبيّة» (إبسن) القرن التاسع عشر.
فهل يكفينا حُجّةً، حكم الإدانة الجماعي، الصادر بحقّ الأغلبيّة، من قبل محفل الحكمة؟
يكفي أن نتأمّل موقف هذه الأغلبيّة من واقعنا الوجودي، كي نكتشف أن استهتارها باللغة، وبسلطان اللغة، عندما تخلع على نفسها لقباً مهيباً مثل «الأغلبيّة»، (المستعارة حرفيّاً من المغالبة)، لا يتوقّف عند تخوم هذه المغالطة اللئيمة، ولكنه لا يلبث أن يُبيح لنفسه إثماً آخر، هو: التجديف في حقّ حقيقة اللغة، كبرهان على كينونة، عندما يحرّم على الأقليّة، استخدام لغتها الأمّ، وانتداب لغة الأغلبية، كلسانٍ بديل عن لسان الأمومة، وهو ما يعني استصدار حكم بالإعدام في حقّ هذه الأقليّة، مادمنا قد آمنًا، مع مَن آمن، بأن اللغة ليست مجرد خطاب، ليست مجرد بيان، ليست مجرد وسيلة تواصل، ولكنها، بإجماع أئمّة الحكمة، هي الوجود حرفيّاً.
الفتوى، بحظر تعليم لغة الأقليات الثقافية، في كل شمال افريقيا، المستوحاة من منظومات أمنيّة سريّة، تحكّمت في مصير مجتمعات هذا الواقع، من وراء حجاب، طوال العهد المنبثق عن مرحلة ما بعد التحرّر الوطني، هيمنت على المشهد الثقافي بروح الجلّاد، مستنصرةً بتعاطي الأفيون الأيديولوجي، في بُعده القومي، لتنتهي إلى ما يمكن أن نسمّيه بـ«التطهير الثقافي»، الذي لن يكون في حقيقته الأخيرة، سوى «التطهير الروحي»، مادامت اللغة، كقيمة ثقافية، هي بالأساس ثروة روحيّة.
سنّت حكومات ما بعد الاستقلال هذه القوانين الجائرة في حقّ أناسٍ، هم في الأصل، سكّان أصل، كل خطيئتهم أنهم استقبلوا الدخلاء يوماً في ربوعهم كأضياف، ليعتنقوا حُجّة هؤلاء الدينيّة، ولم يتخيّلوا يوماً أن هذه الاستضافة، سوف تتحوّل في وجودهم لعنةً، جرّدتهم لا من الوطن وحسب، ولكن من لسان الوطن، ليجدوا أنفسهم غرباء في ديارهم، فلا يشفع لهم حتّى الانتماء إلى الجذور، الانتماء إلى الأصل، الذي لفّق وجدان الوطن، من قدر إقصائهم عن الحضور في حضرة الوطن، ومن متعة تعاطي لسان، رضعوه في حليب الأمّ، فلا يعود مجرد رطانة، كما يروق الأغلبية الدخيلة أن تسمّيها استخفافاً، ولكن يستصرخ الغيوب، كي تدلي بشهادتها، فتبشّر العالمين بحقيقة اللغة كطينة وجود؛ لأن اغترابه عن الوجود كإنسان، رهين اغترابه عن عضلة اللسان.
ليست حُجّة الانتماء البدْئيّ إلى جذور المكان وحدها هي ما لا يشفع للأقليّة، ولكن مجدها الروحي أيضاً يفشل في أن يشفع. ها هو أبو تاريخ ما قبل التاريخ: «هيرودوت» يتغنّى في كتابه الرابع «ملبومينا» من ملحمته التاريخية، فينشد الأساطير عن أفضال قدماء الليبيّين (سكّان شمال افريقيا الأصليين) على العالم القديم الذي كان للبشرية إماماً في التنوير الروحي، وهو اليونان، وها هو «أبولييوس» الليبي من مدينة صبراتة، يتحف الجنس البشري بأوّل عمل روائي في التاريخ، وهو «الجحش الذهبي»، وها هو قطب مرجعيّ كابن خلدون يستصدر في حقّ هؤلاء شهادة تصفهم «بالأمّة العظيمة، مثلها مثل الروم والعرب والفرس»، وها هو علّامة في مقام إبن منظور، قاضي طرابلس، يلقّن الأجيال درساً في الاحتفاء بما نصّبته الربوبيّة قدس أقداسٍ في حياة المخلوق الفاني، وهو اللغة، فيؤسّس للعرب صرح لسانهم، المترجم في موسوعة «لسان العرب»، كأنّه يتنبّأ عندما يتعمّد أن يجود على أمّة «إقرأ»، بما بخلت به أمّة «إقرأ» على الأخلاف من أبناء جلدته، لمجرّد ارتضائهم هويّة الأقليّة كوثيقة ثبوتيّة للبرهنة على اغترابهم!
والواقع أننا لن نستكشف حقيقة العقليّة التي تعتنقها الأغلبيّة ما لم نستنطق منطقها. فعندما ينعتها الحكيم بتعاطي الشرّ، فتلك خصلة مفروضة في تجربتها بحرف طبيعتها كأغلبية. فهي لا تستعير هذه المنزلة الاستثنائية ما لم تمارس العدوان في حقّ الخصم، وإلّا لما انتصرت. والنصر هو البرزخ الأكثر خطورة في كل نشاط حربيّ؛ لأن العدّ التنازلي، في سيرة المنتصر، إنّما يبدأ ساعة الغلبة حتّى لو ابتدأ في صيغة دفاعٍ عن النفس. ونحن نعلم أن حجّة الدفاع عن النفس هي العملة المستخدمة في ممارسة العداء، بل وفي ممارسة القمع في حقّ الأقليّة، بوصفها الطرف المغلوب حتى في حال لم يخض حرباً. والأغلبيّة تبقى سلطة بفضل الكمّ، لا الكيف، والكمّ دوماً جوادٌ بلا لجام، ولذا هو جنون، أمّا الكيف فيبقى من نصيب الأقليّة، لأن الاحتكام إلى العقل حيلة المغلوب. وعلّ هذا هو ما يفزع الأغلبيّة، ليجعلها في العلاقة مع الأقليّة دوماً في شكّ.
بلى! نشاط الأقليّة يبقى عملاً مشبوهاً دوماً في نظر الأغلبيّة، مهما تبدّى بريئاً. ولذا كانت التهمة الخالدة، التي تروّجها آلة الأغلبية، في تبرير قمعها للأقليّات، هي ممارسة العمل في الخفاء على تقويض سلطة الأغلبية كأغلبية، لتتحوّل التهمة إلى إدانة بتدبير مكيدة في حقّ نظام هو حكر على الأغلبية، ولا ضمان ألّا تستعير الإدانة صيغة قصوى اعتادت الأنظمة انتدابها لسحق كل صاحب رأي، وهي الخيانة العظمى. فالانتماء إلى حقل الأغلبية لا يحقّق الأمان المطلوب، لأنه أمان القطيع الذي لا يجير من أنياب الذئب دوماً. هذا في حين يهب الانتماء إلى الأقليّة إحساساً غيبيّاً بالاصطفاء. اصطفاء يحرّض على ذلك الانضباط العصيّ، الذي يحقّق ضرباً من حصانة نفسيّة، تتحوّل بالتجربة إلى تفوّق؛ تفوّق على النحو الذي ألفناه في أمّة العبرانيين، عندما جرجرت «أقلّيّتها» التاريخية عبر الأزمنة، وفي واقع الأمكنة، لتتحوّل في تجربتها التراجيديّة تميمةً سحرية، لأن الإحساس بالاضطهاد يدفع إلى التميّز كملاٍذ للدفاع عن النفس، وكترياق لمداواة الإحساس بالنقص. وهو العطب المستثمر عادةً في قبول الاغتراب عن الواقع، لغاية تغيير ما بالواقع، الذي لا يتحقّق بدون تغيير ما بالنفس. وأولئك الذين أفلحوا في تغيير ما بأنفسهم، وحدهم يستطيعون أن يتباهوا بقدرتهم على تغيير ما بالعالم. وعلّ تجربة النبوّة أعظم دليل على هذه الحقيقة؛ لأن الانتماء إلى الأقليّة (سواء أكان خياراً أم إجباراً) هو وقود الأنبياء في امتلاك الحقيقة التي أنقذت العالم. ولكن هذا لا يعني إعفاء الأغلبية من قصاص وجودها في حرم الأقليّة. فالجدل، في العلاقة بين هذين القطبين حميميّ، ولكنه لا يلبث أن يسفر عن مفاجأة لن تسرّ الأغلبيّة. ففي نموذج كليبيا مثالاً، خضعت العلاقة لأطوار تخلّلتها زلازل، بل ربّما مهازل مسطّرة بمشيئة تاريخ. فعقب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة القاضي باستقلال ليبيا، بذلك التصويت الدرامي الذائع الصيت، بأغلبيّة صوت مغامر يتيم، لم يلبث صاحبه أن تلقّى بسببه قصاصاً تأديبيّاً، استقبلت البلاد وفداً أمميّاً بمهمّة تقصّي الأوضاع على أرض الواقع، لترفع هذه اللجنة تقريرها للأمانة العامّة بشأن الأقلّيات، التي حدّدتها آنذاك على النحو التالي: العرب كأغلبيّة، ثم الأمازيغ كمرتبة ثانية في السلّم حسب تعداد تقريبي للسكّان، ثمّ اليهود، ثمّ الطليان، ليتمّ اعتماد هذا التقرير كوثيقة على أبطال الاستقلال التقيّد بفحواها في كلّ ما متّ بصلة للحقوق، في واقع الزمن الذي كانت فيه ليبيا أفقر بلد في العالم. ويبدو أن المحنة المعيشيّة هو ما ساهم في تعايش الأقطاب الأربعة في هدنة فرضتها أحوال المعيشة، ولكنها الهدنة التي لم يُكتب لها أن تدوم طويلاً. وها هو الوضع ينفجر بعد أوّل بحبوحة حلّت في البلاد مع عوائد أول شحنة نفط مطلع ستّينيات القرن السالف، مما يدلّ على صواب اليقين السائد بحقيقة الثروة كلعنة.
حدث ذلك في مرحلة تزامنت مع طلوع الوعي القومي العربي، ليبلغ السطوة في حرب الأيام الستّة، بتحريض من الخطاب الايديولوجي المستعر في رحاب المشرق آنذاك، ليدفع قطب بريء، في المعادلة، الثمن، وهو الأقلّية اليهوديّة، التي طُردت من ربوع المكان الذي كان لها منذ آلاف السنين لا الوطن وحسب، ولكن كان لها مسقط رأس، وها هي تعيش تجربة خروج جديد، بعد الخروج الأسطوري من أرض مصر، لتحيا أيضاً تجربة لا تقل درامية في الخروج البابلي على يد نبوخذ نصر؛ كأنّ التاريخ يأبَى إلّا أن يعيد نفسه.
خرج آل عمران من المكان الذي احتضنهم دهراً، ولم يشعروا في أرباعه باضطهاد، ولم يتعرّضوا لقمع، وأقاموا فيه شعائرهم الدينية بحرية منذ ما قبل التاريخ، ومارسوا في رحابه طقوسهم الاجتماعية، وشيّدوا في أرضه هياكل كنائسهم، واتاحت لهم حاضرة ليبيا طرابلس فرصة تشدد كيان الحارة (getto) مرّتين: الحارة الكبرى، والحارة الصغرى، لتكون هذه المدينة العريقة، ذات الاسم الرومانسي (أويا) الدالّ في الليبيّة القديمة على: الميلاد، أو الإنوجاد، أو الحياة؛ أوّل من أتاح للعبرانيين فرصة تأسيس حارتين داخل مدينة واحدة، في حين جادت هذه اللغة الرائدة على العبرانيين بمعنى اسم الـ (getto)، الدالّ على الركيزة، أو عمود الخباء المركزي، الذي يعتمد عليه قيام بيت هذه القبيلة الراحلة، التي لم تستنزل لقب «العبرانيّين» في هويّتها إلّا لاحترافها، العبور ديناً، أو الهجرة كإدمان لحريّة رهينة إدمان التخلّي عن المقام في المكان، واستبداله بالحلول في مكان اللامكان. ولو لم تكن الهجرة معبداً متنقّلاً، لما صارت وطن الأنبياء، ولما فازت هذه الأمة بالذّات بنصيب الأسد من كم الأنبياء. وعلّ الوصيّة الواردة في سفر الخروج أقوى حجّة على هذا الشرف، عندما يأمر الربّ الفرعون قائلاً: «أطلق شعبي ليعبدني في البريّة»، ممّا يعني أن أرض الميعاد ليست مكاناً محدّداً على خارطة المسكونة، ولكنه الحلول في تلك الصحراء، التي كانت دوماً وطن الربّ، بما هي فسحة حريّة. ولذا فهي المكان الجدير بلقب «معبد الربّ».