وقوف الولايات المتحدة والتحالف الغربي بقوة إلى جانب أوكرانيا، عبر تقديم المساعدات العسكرية والاقتصادية السخية لها، وفرض عقوبات صارمة على روسيا، مكَّنها من صد الهجوم الروسي وإجباره على التراجع، لكن المشكلة لن تُحل بالحرب وحدها، ولا بدّ من التفاوض مع روسيا لإيجاد مخرج للأزمة.
المساعدات الغربية المقدمة لأوكرانيا هي الأخرى لا يمكن أن تدوم طويلا، خصوصا في ظل المصاعب الاقتصادية الحالية وارتفاع معدل التضخم الذي سيقود حتما إلى الانكماش الاقتصادي وارتفاع البطالة، وقد بدأت الأصوات المطالبة بتقليص الدعم لأوكرانيا، أو إيقافه كليا، تتصاعد في الولايات المتحدة، سواء من اليمين أو اليسار، لكن الموقف العام تجاه أوكرانيا ما زال صلبا، ويتمتع بدعم الغالبية من الحزبين، الديمقراطي والجمهوري.
الانتخابات النصفية الأخيرة برهنت على أن شعبية الديمقراطيين ما زالت قوية، رغم تراجع شعبية الرئيس جو بايدن شخصيا، والسبب يعود، حسب معظم المراقبين، إلى تصدر الرئيس السابق، دونالد ترامب، حملة الحزب الجمهوري الانتخابية، في وقت بدأت شعبيته تتداعى في الحزب الجمهوري وعموم الشعب، خصوصا بعد رفضه الاعتراف بالخسارة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والذهاب إلى حد تشجيع أنصاره على مهاجمة مقر الكونغرس (كابيتول هيل) أثناء جلسة المصادقة على النتائج في 6 يناير 2021، بينما المعتاد في العالم الديمقراطي هو الاعتراف بالخسارة وتهنئة الفائز.
لكن دونالد ترامب شذ عن هذه القاعدة، وصار أول رئيس أميركي، منذ عام 1869، يرفض حضور تنصيب سلفه، بينما حضره نائبه مايك بنس، ورئيس الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونال، والرئيس الجمهوري الأسبق جورج بوش، ومرشح الرئاسة الجمهوري الأسبق، ميت رومني، ونائب الرئيس الجمهوري الأسبق، دان كويل وباقي قادة الحزب الجمهوري الكبار.
لم يفُز معظم المرشحين الذين دعمهم ترامب شخصيا، بل تمكن الديمقراطيون من الفوز حتى في بنسلفانيا، رغم أن مرشحهم، جون فترمان، مصاب بجلطة دماغية، ولم يكن قادرا حتى على إلقاء الخطب أو إجراء الحوارات أثناء الحملة الانتخابية. مع ذلك تقدم الجمهوريون في انتخابات مجلس النواب، لكن هذا التقدم كان محدودا، ولم يرتقِ إلى توقعاتهم، أو حتى توقعات المراقبين المستقلين، الذين توقعوا فوزا أكبر للجمهورين، وهذا هو المتوقع عادة في الانتخابات النصفية، أن يتقدم الحزب المعارض على حزب الرئيس.
مراقبون كثر لا يتوقعون أن يرشح الرئيس بايدن نفسه لولاية ثانية، بل هناك من طالبه بعدم الترشح، فقد بلغ من العمر الآن 80 عاما، وكان عند توليه منصبه، الرئيس الأكبر سناً في تاريخ الولايات المتحدة، إذ تولى المنصب بعد تجاوزه سن 78. وعندما يحين موعد الانتخابات المقبلة سيبلغ 82 عاما، وإن ترشح وفاز، فسوف يحقق رقما قياسيا آخر في كونه الرئيس الثمانيني الوحيد في تاريخ الولايات المتحدة، إذ ستنتهي رئاسته وهو بعمر 86.
لا يستطيع بايدن أن يعلن الآن بأنه لن يترشح لولاية ثانية، حتى وإن كان يفكر بذلك، لأنه سوف يضعف سلطته خلال العامين المقبلين، ويتحول إلى "رئيس عاجز" أو ما يطلق عليه في عرف السياسة "البطة العرجاء"، (lame duck). لكن ترامب أعلن أنه سيترشح للمرة الثانية، بينما تشير الاستطلاعات بأن حاكم فلوريدا، رون دي سانتيس، أكثر حظا منه في الفوز بانتخابات عام 2024 إن حصل على تأييد الحزب الجمهوري.
لقد حقق بايدن العديد من النجاحات أولها إفشال العلية الروسية في أكرانيا، التي تمكنت من صد القوات الروسية ابتداءً، ثم تحقيق نجاحات عسكرية لاحقا، منها إجبار الروس على الانسحاب من خيرسون، وهي أكبر مدينة يحتلونها في أوكرانيا، وكانوا قد ضموها إلى روسيا رسميا في احتفال رسمي بموسكو في 30 سبتمبر الماضي. كما تمكن من تعزيز تحالفات أميركا الدولية، بمساعدة غير مقصودة من خصومه في روسيا والصين! إضافة إلى نجاحاته الداخلية، سواء على مستوى الاقتصاد أو البيئة، أو في الانتخابات الأخيرة، إذ تمكن حزبه من السيطرة على مجلس الشيوخ، ما يعني أنه سيحد من إعاقة الجمهوريين لإدارته خلال العامين المقبلين.
سوف يستمر الديمقراطيون بالهيمنة على مجلس النواب حتى نهاية العام الحالي، وسوف يتمكن بايدن من تمرير صفقة أخرى من المساعدات العسكرية والاقتصادية لأوكرانيا، لكنه سيواجه صعوبات في العام المقبل، لأن الجمهوريين سيتحكمون بمجلس النواب. صحيح أن الجناح المتشدد في الحزب الجمهوري، الذي يرفع شعار "أميركا أولا"، ليس كبيرا، إذ يتراوح عدد نوابه بين 40-50 نائبا، لكنه قد يتمكن من لعب دور أكبر من حجمه بسبب ضآلة الغالبية الجمهورية في مجلس النواب. مع ذلك، مازالت هناك غالبية جمهورية تؤيد استمرار تقديم المساعدات لأوكرانيا.
الرئيس المقبل لمجلس النواب، كفين مكارثي، قال إن المجلس لن يقدِّم للرئيس "شيكا مفتوحا" بخصوص أوكرانيا، لكنه أضاف أن "هذا لا يعني عدم وجود شيك نهائيا"، بمعنى أن الدعم سوف يستمر، ولكن ليس كما يرغب به الرئيس! زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونال، أكد التزامه بتقديم المساعدات لأوكرانيا للدفاع عن نفسها، كما أوضح مسؤولون جمهوريون في الكونغرس أن الدعم العسكري لأوكرانيا سيتدفق بسرعة أكبر عندما يتولى الجمهوريون قيادة الكونغرس. من الواضح أن الولايات المتحدة لن تتخلى عن أوكرانيا تحت أي ظرف، وسوف تضغط على الأوروبيين لتقديم المزيد من الدعم لها.
الأوروبيون بدؤوا يتسلحون لمواجهة الخطر الروسي، بعد أن توهموا سابقا بأن خطر الحرب قد زال كليا عن أوروبا بزوال الاتحاد السوفيتي. معظم الدول الأوروبية رفعت نسبة الإنفاق على التسلح، وقدمت طلبات للمصانع لشراء الأسلحة المتطورة. بريطانيا، مثلا، قدمت طلبا لشركة (BAE Systems) بصناعة خمس فرقاطات متطورة من نوع 26، بكلفة تقترب من خمسة مليارات دولار، إضافة إلى ثلاث فرقاطات أخرى قيد الصنع حاليا، معللةً ذلك بضرورة تعزيز دفاعاتها في ظل الخطر الروسي على الأمن الأوروبي.
الحرب الروسية الأوكرانية كلفت البلدين حتى الآن حوالي مئتي ألف، بين قتيل وجريح، حسب تصريح رئيس أركان الجيش الأميركي، الجنرال مارك ميلي، إضافة إلى الخسائر المادية الهائلة، وهجرة ملايين الأوكرانيين إلى بلدان أخرى، بل دفعت الكثير من الروس إلى الهجرة بهدف تجنب الالتحاق بالجيش.
الصواريخ بدأت تتساقط الآن على دول الجوار، وأولاها بولندا، التي تلقت قبل يومين صاروخا روسياً، حسب الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وأوكرانياً حسب الرئيس البولندي، أندزي دودا، والأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبيرغ! وإن كان هذا (الخطأ) قد مر بسلام هذه المرة، فلا توجد ضمانة بأن أي خطأ آخر لا يتسبب في توسيع دائرة الحرب.
يتوقع مراقبون أن الهجمات الروسية والأوكرانية سوف تتقلص عندما يشتد البرد في الأشهر الثلاثة المقبلة، رغم أن الصواريخ الروسية بدأت تستهدف البنى الأساسية لأوكرانيا بهدف إضعاف قدرتها على الصمود، وإحباط معنويات جيشها وشعبها. لكن العتاد الروسي يتناقص بمرور الزمن، والعقوبات الغربية بدأت تضرب الاقتصاد الروسي في العمق.
ومع تزايد كفاءة القوات الأوكرانية في مواجهة القوات الروسية، واعتراض الصواريخ، التي تستهدف محطات الكهرباء ومخازن الوقود وباقي المرافق الحيوية والأهداف المدنية، صار من العبث استمرار هذه الحرب التي لم يعد لها هدف غير التدمير المتواصل لكلا البلدين، وإشغال العالم عن القضايا المهمة التي تحتاج إلى حلول سريعة، كالتغير المناخي وإنعاش الاقتصاد ومحاربة الفقر ومكافحة الفيروسات والأمراض المعدية.
ومع النتائج الإيجابية للقاء الأخير بين الرئيسين الأميركي والصيني في بالي، وتزايد احتمالات التوصل إلى حلول للمشكلات العالقة بين البلدين، واستمرار الضغوط المتواصلة على إيران كي تعود إلى الاتفاق النووي مقابل رفع العقوبات عنها، فإن عزلة روسيا سوف تزداد، بينما تتضاءل قدرتها على مواصلة الحرب. لم يعد بإمكان روسيا أن تتوسع داخل أوكرانيا، خصوصا بعد انسحابها من خيرسون، بل سيكون من الصعب عليها الاحتفاظ حتى بمقاطعتي لوغانسك ودونيتسك، اللتين سيطرت عليهما في بداية الحرب. يبدو أن هناك الآن قناعة لدى القيادة الروسية بأنها لن تربح هذه الحرب، خصوصا مع إدانة الرئيس الصيني، شي جينبغ، التهديد الروسي باللجوء إلى السلاح النووي، أثناء لقائه بالرئيس جو بايدن.
هذه الأسباب وغيرها ستدفع الروس للبحث عن مخرج من الأزمة، وقد توفر الظروف الصعبة التي تمر بها روسيا حاليا، الفرصة المناسبة لبدء المفاوضات لإنهاء هذه الحرب التي تسببت في خلق مصاعب جديدة لمعظم دول العالم. لكن المفاوضات لن تحصل دون وسطاء أقوياء ومحايدين، ومقترحات عملية، لا يبدو فيها أحد الطرفين منتصرا على الآخر.
العقبة الأساسية أمام التوصل إلى حل سلمي هي إصرار أوكرانيا على انسحاب روسيا كليا من الأراضي الأوكرانية، بما فيها شبه جزيرة القرم، التي احتلتها روسيا عام 2014، بل وتعويضها عن الخسائر الفادحة التي لحقت بها بسبب الحرب. الموقف الأوكراني متشدد، خصوصا مع الدعم اللامحدود الذي تتلقاه من البلدان الغربية والولايات المتحدة التي ستواصل دعمها لأوكرانيا، ولن تضغط عليها لتغيير موقفها، حسبما أعلن مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سولفان.
الموقف الرسمي الأميركي مفهوم ومتوقع، لكن الموقف الفعلي يمكن أن يتغير في المستقبل، إن لمَّحت روسيا إلى تقديم تنازلات من أجل إنهاء الحرب. القيادة الروسية تحتاج لأن تواجه الحقيقة، وهي أنها أخطأت في غزو أوكرانيا، وعليها الآن اتخاذ قرارات شجاعة لتصحيح هذا الخطأ، لأن الاستمرار فيه سيكون على حساب روسيا.