ولا أدري كيف لم أنتبه لوجود البصمة الدموية في أشجار الخريف طوال عقودٍ من مقامي بين روسيا وبولندا، فلا أعيد اكتشاف حقيقة العلامة إلّا عند حلولي في رحاب الألب السويسري منذ ثلاثة عقود، لأعيد اكتشاف حجّة فوكنر أيضاً، لأن النزيف الدامي المترجم بسخاء، في غابات الألب، لا يكتفي هنا بأن يجود بلون الدمّ، ولكنه يتفنّن في بصم الواقع الخريفي بأختامه الوجدانية، لتتحوّل الطبيعة كلها إلى ملحمة شعريّة، اعتدتُ أن أحجّ إلى بلاطها كل عام، بالتزامن مع حلول فصل الأشجان هذا، حيث اعتدتُ أن أستعيد ثروات الزمن الضائع، التي سلختها من العمر منافٍ، استغرقت ما يزيد على النصف قرن.

ها هو الألب مرة أخرى، الألب الغارق في نزيف كل عام، مما يستنزل في واقعه الصارم مسحةً جمالية غيبيّة، مشفوعةً بنصيبٍ سخيٍّ من كآبة، كآبة هي غنيمة كل كيانٍ ينازع الفناء، لكي يحقق في المحال خلوداً، إنه الجدل الدرامي والدامي بين كائنات لا تقنع إلّا بالأبد، رغم أنف الباطل الذي لا يبشّر في الواقع إلّا بالعدم.

سلسلة الجبال في محيط الألب تلبّست أكفان الحداد استعداداً للارتماء في أحضان الشتاء، أهرامات خرافية متجاورة، تتبدّى، وهي تتحصّن بكتل الجليد، أجراماً تتلحّف ببياض في كثافة الشحوم، مبصومةً في الأسافل، بأشرطة أشجار، تسري في السفوح كأوسمة سحرية، مجلّلة، هنا وهناك، بنزيف الدمّ، برهاناً على حلول ميعاد الوداع، الأوسمة مجدوحة ببصمات ذهبيّة، لا تلبث أن تُستباح بالنزيف الدموي، في غزوات همجيّة قاسية، كأنها أختام ورمٍ خبيث، يفترس كثافة الأحراش.

الأجرام الجبلية الساطعة، تتزاحم في الأفق، لتبدو في البُعد، مغتربةً، معتزلةً، بغياب الأنام، كأنها تنزّلت للتوّ من رحم المجهول، لتهيمن على اليابسة باستكبارٍ منزّهٍ عن دنس الحضيض.

في بيرن، تحديداً في منازل "أوستر مونديغن" يتراطن السابلة بلغة كانط وغوته، ولكنها مجبولة بلكنة الريف السويسري، الأكثر خشونة في المنطق، والأكثر حميميّة بفضل الروح السويسرية.

في هذا المقام انتصبت في المشهد شجرتان: شجرة مازالت تتمسّك بالحجّة الذهبيّة للتعبير عن الأفول، هذا في حين تعالت على بُعد خطوات شجرة أخرى، قطعت في سبيل النزيف شوطاً أبعد، فتخضّبت بالدمّ، لتجود بالرؤية العصيّة، التي كان لها الفضل في إنتاج الحجّة الوجودية القاسية، التي ألهمت عقلاً نبويّاً كـ فوكنر عنوان ملحمته الرائعة "الأوراق الحمراء"، بسبب الصلة بالواقع العرقيّ للمكان، الذي تدور في ساحته فصول السيرة، وهو موقع مسكون بقبيلة هندية حمراء، لفظ زعيمها أنفاس النزع الأخير للتوّ، ليبدأ نزيف الطقس الوثني الموروث كوصيّة مقدسة مستعارة من معجم الأسلاف، قام القائمون على أمر القبيلة، الأكثر حرصاً على تنفيذ الأحكام المنزّلة، بسفك دم أوّل الضحايا وهو جواد الزعيم الراحل.

ثمّ.. ثمّ طاف كبيرهم ببصره الساحة بحثاً عن بقيّة الممتلكات، الأحقّ بتقديمها قرباناً، لمرافقة الفقيد في رحلة الأبديّة، فلم يجد سوى العبد، الذي كسبه الزعيم مرةً في لعبة قمار، برغم عدم حاجته له، فتبادل نظرة ذات معنى مع فرسان القبيلة، في حين انتهز الزنجي الشقيّ الفرصة، ليلوذ بالفرار.

فرّ العبد تلبيةً لنداء الغريزة، فرّ لأنه لا يريد أن يموت، ليبدأ الفصل الجديد من أوديسة النزيف، أوديسة اللون الأحمر، الشيب الأحمر، الأقسى مفعولاً من العتبة الأولى في كل رحلة خلود، لصيقة بكل خريف، لأن الخريف ما هو إلّا رهان كل وجودٍ موبوءٍ بجرثومة شيخوخة، بجرثومة رحيل!

استمرّت المطاردة أياماً، لعب فيها دور البطولة، إلى جانب الطريد الشقيّ، فارسان هنديان مخضرمان، اعتادا أن يؤدّيا الواجب الملقى على عاتقهما بيقين، وتحقيق النصر بصبرٍ، بنفَسٍ طويل، ولكنه مشفوع بيقين حديدي، جنوني، لا إنساني، الغلبةُ فيه مسألة شرف!

ولكن المأساة أن النجاة بالنسبة للعبد ليست مسألة شرف، ولكنها مسألة حياة، لا موت، وهنا تكمن الدراما التي لا يحسن تسويقها سوى صاحب روح شكسبيرية، كما الروح الفوكنرية، السليلة الشرعية للروح الشكسبيرية، هنديان أحمران، أحمران فروسيّاً، لأن تمسّكهما بالتقاليد السلفية يجعلهما دمويّان في تنفيذ مهمّتهما الوثنية، مهمتهما الأسطورية، فلا يتشنّجان، لا يتبلبلان، لا ينفعلان، على طريقة الدهماء، أو ما شابههم من خشارة الرعاع، ولكنهما يمتطيان جواديهما، ويمضيان خلف طريدتهما، بجَلَد الأسلاف العظماء، ليكونا جديرين بانتمائهما إلى سلالة العُرف، يتحاوران طوال الوقت أثناء اقتفاء الأثر، لا تزجيةً للوقت، أو لقطع دابر الملل، ولكن لاستقصاء مسلك الطريدة في فرارها من نصل المطواة الفظيعة التي تنتظرها.

هذا الحوار وحده ملحمة، هذا الحوار وحده إلياذة، إلياذة حتى في شأن المفاضلة بين أكل لحم الإنسان الزنجي، بمرارة طعمه التي لا تطاق، وبين لحم الإنسان الأبيض، الأقل مرارة في الطعم، كما تعلّما من التجربة!

هنا يبدأ الأفول مسيرته في الأوراق الخريفية، فالشحوب ورمٌ ينفي اللون الأخضر كعتبة أولى في سلّم الاغتراب، قبل أن يستقيم في الشيب الذهبي، في الشيخوخة، ولكن مازال طريق الشبحين الهنديين الأحمرين طويلاً كي يحققا مرحلة الاحمرار على مستوى الطبيعة أيضاً، لا على مستوى كفاءتهما كجنديّين، اللون الأحمر هويّتهما، اللون الأحمر عرقهما، اللون الأحمر نزيفهما الوجوديّ، لأنهما من أمّةٍ النزيف قدرها، اللون الأحمر منبتها، واللون الأحمر مرجعها، لأنه قدرها، لأن الفناء نفسه لونه أحمر، الفناء نزيف الوجود.

في ذروة الفرار يدرك العبد الشقيّ منزلة الخطر في فراره العنيد، يجتاز عتبة الشحوب ليتصفّر، ليستعيد لون الشيب الذهبي بفضل لدغة الأفعى، أحدث الناب المسموم في جسده تشوّهاً أصاب اليد بالشلل، ولكنه لم يستسلم، كابر، وواصل الفرار، واصل الفرار فسافر خلفه الشبحان الهنديان المخضّبان بالاحمرار.

احمرارٌ في البدن، واحمرارٌ في الروح، والحمرة في الروح هي نزيف الروح، الذي لا يقارن بنزيف الأبدان، جدل اللونين (الأصفر ثمّ الأحمر) يهيمن في واقع السردية تماماً كما يهيمن على الشجرتين، اللتين تواجهان نزل "أوستر مونديغن" في خريف عَودي السعيد إلى وطن الرؤى السماوية.

الجدل في السردية يتضاعف، ليبلغ الذروة باستسلام العبد طوعاً بعد أن نال منه الظمأ والجوع وسُمّ الحيّة، استسلم لينال مديح قدره المترجم في حرف هذين الماردين الأحمرين الحديديّين، في عبارة نطق بها أحدهما: "ليس لك أن تخجل أبداً، فقد أحسنت الهرب!"، كان اعترافاً نبيلاً من فارس أحسن عمله في حقّ فارس آخر أحسن عمله أيضاً. فتقاليد الفروسية إرثٌ دينيٌّ يجب أن يمارَس في حقّ القرابين أيضاً. كرّر الفارس الهندي الأحمر العبارة مرةً أخرى، قبل أن يأمر له بالماء والطعام.

إشباع الجسد الفاني طقسٌ آخر، ضروريّ، قبل استنزال النصل على الرقبة!

فالنزيف الذهبي ـ شيخوخة الحسّ، والنزيف الدموي شيخوخة الحدس.

لنزيف الذهبي ـ شيخوخة الطبيعة، والنزيف الدموي شيخوخة الروح.