فموسكو تكرر، ومعها الصين أحيانا، منذ فترة أن المشكلة مع أميركا والغرب هي ضرورة تجاوز العالم أحادي القطبية إلى عالم متعدد الأقطاب لا تكون فيه الهيمنة لقوة عظمى وحيدة هي الولايات المتحدة. في المقابل فإن الهدف الرئيسي للاستراتيجية الأميركية لوقف صعود الصين وروسيا هو تعزيز الريادة الأميركية لما تسميه "تحالف غربي واسع" واستعادة المكانة الدولية لواشنطن التي ترى إدارة الرئيس بايدن انها تراجعت.

ومن بين التفسيرات للحرب في أوكرانيا أن روسيا إنما تتصدى لهيمنة القطب الواحد وأن أميركا تسعى لاستنزاف روسيا في أوكرانيا وأيضا جر الصين لاستنزاف اقتصادي وغيره بالحصار الاقتصادي لموسكو والعقوبات المتصاعدة على بكين. ويبدو الوضع وكأننا نعيش أجواء الحرب الباردة التي انتهت بأواخر ثمانينيات القرن الماضي بانهيار الاتحاد السوفييتي الذي مثل القطب الثاني أمام أميركا في عالم ثنائي القطبية.

ورغم أن كل ذلك الإنشاء السياسي قد لا يخلو من بعض الصحة إلا أن العقل والمنطق يدفعان نحو التمحيص الشديد لمسألة القطب والأقطاب، وحتى كل الحديث عن "نظام عالمي جديد".

بداية، ورغم أن روسيا باعتبارها أكبر دولة كانت ضمن الاتحاد السوفييتي أصبحت وريثته منذ نحو ثلاثة عقود إلا أنها ليست الاتحاد السوفييتي السابق. ولا أتصور أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "يسعى لإحياء الاتحاد السوفييتي" كما يصور بعض الكتاب في الغرب وأنه يريد فعل عبر ضم ما تفتت منه بالقوة المسلحة. حتى وإن كانت موسكو تريد أن تعامل من قبل أميركا والغرب، والعالم بالتالي، على أنها قوة يتعين احترام مصالحها.

فحماية المصالح والعمل على تعزيزها شيء والسعي نحو القطبية العالمية شيء آخر. وقد يكون ذلك ما يجعل كثيرون يرون أن سعي روسيا نحو عالم متعدد الأقطاب مقدمة لريادتها لقطب مناوئ لأميركا في قيادتها للغرب ضمن إعادة انتاج "ثنائية القطبية" التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.

لا حاجة لتوضيح أن روسيا ليست في وضع قوة يمكنها من ذلك، لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا عسكريا، وأن كل محاولتها حتى لفك الارتباط الأوروبي بأميركا ولو قليلا لم تنجح على مدى نحو عقدين.

في الوقت نفسه، فإن سعي أميركا لتعزيز ريادتها لتحالف غربي على أساس "التصدي للأطماع الروسية" إنما يغذي بالتفريغ السلبي فكرة أن مكانة أميركا كقطب وحيد في العالم تتراجع فعلا. لكن بالتأكيد ليس بالقدر الذي يضعها في ذات المستوى مع روسيا ولا حتى الصين التي تقدمت اقتصاديا بقوة في العقود الأربعة الأخيرة.

ثم إن العالم، ومنذ ثمانينيات القرن الماضي يسعى للوصول إلى نظام جديد يحكم العلاقات الدولية بعد نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين: الشرقي والغربي. وفي تلك العقود برزت قوى صاعدة على الساحة الدولية بعضها اقتصادي مثل تجمع "بريكس" الذي يضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب افريقيا وبعضها على شكل تحالفات وتجمعات اقليمية أخرى.

في النهاية، لم يشهد العالم لا صعود "قطب" أو "أقطاب" تقف على قدم المساواة مع القطب الأميركي الوحيد ولا هو اقترب حتى من صياغة نظام عالمي جديد. ومن الصعب تصور أن الحرب في أوكرانيا، على أهميتها وخطورتها، ستؤدي إلى تشكل مثل هذا النظام الذي يتحدث الكل عنه الآن. فنظام علمي جديد قد لا يتشكل على الأرجح إلا نتيجة حرب عالمية ثالثة مثلا.

كل ذلك لا يقلل من أهمية أن حالة "الميوعة" العالمية التي نشهدها تمثل فرصة لكل من يرغب في تعظيم مكانته وتوسيع مصالحه والسعي للعب دور إقليمي أو دولي. ومن حق العرب، بل وواجبهم، انتهاز تلك الفرصة إذا أرادوا الصعود على الساحة الدولية – ليس بالضرورة كقطب مناوئ لأقطاب ولكن كقوة يحسب لها حساب وتؤخذ مصالحها في الاعتبار من قبل القطب أو الأقطاب.

ليس بالضرورة أن يكون ذلك من خلال الانحياز إلى روسيا أو حتى الصين على حساب علاقات العرب مع الولايات المتحدة والغرب. فذلك فضلا عن كونه غير منطقي حاليا فإنه لا يحقق أفضل المصالح العربية. ولعل الموقف الذي اتخذته أغلب الدول العربية من رفض الاصطفاف خلف أميركا في موضوع أوكرانيا وفي الوقت نفسه عدم تأييد أو دعم التدخل العسكري الروسي في شرق وجنوب جارتها هو الموقف الأكثر صحة والأنسب للمصلحة القُطرية لدول المنطقة وللمصالح الاقليمية بشكل عام.

يبقى في النهاية أن الأقطاب لا تتكون بقرار، أو دعوات واجتماعات وبيانات. إنما هي عملية متمرة قوامها العمل الجاد في بناء القوة الذاتية وإدارة العلاقات مع الآخرين على أسس الندية والمصالح المشتركة. وأن يكن في خلفية التفكير أن أحدا لن يمنحك مساحة لم تكتسبها بقدراتك، يستوي في ذلك الأميركيون والغرب مع الروس والصينيين.