وفيما يتمسك غالبية الدول الأعضاء في منظمة أوبك+ بالحياد في مسألة الحرب في أوكرانيا، فإن إيران تتّخذ دبلوماسيا وإعلاميا وعسكريا موقفا منحازا لروسيا استدرج الغاء أوكرانيا لاعتماد السفير الإيراني في كييف في 24 سبتمبر، وبحث إمكانية قطع العلاقات الدبلوماسية الأوكرانية الإيرانية، وفق اقتراح قدمه وزير الخارجية الأوكراني ديميتري كوليبا في 18 اكتوبر. ولئن تتجنب طهران الاعتراف بتزويد روسيا بالمسيرّات (لا سيما شاهد-136) والصواريخ الباليستية ("فاتح 110" و"ذو الفقار")، إلا أن إيران يهمها التلويح بانتمائها الاستراتيجي للحلف الصيني-الروسي، خصوصا إذا ما توقفت مفاوضات فيينا وسقط الاتفاق النووي.

والحال أن إيران تتبرع، ربما من حيث لا تريد، بتأكيد ما كانت تطالب به دول إقليمية، لا سيما في مجلس التعاون الخليجي، بضرورة ألا تقتصر المفاوضات الدولية على البرنامج النووي الإيراني، وأن تشمل المفاوضات ملف الصواريخ الباليستية وسلوك إيران المزعزع للاستقرار. ولطالما استخدمت الصواريخ والمسيّرات الإيرانية ضد دول المنطقة وباتت الآن، بسبب الإغفال الغربي لهذا الملف، تمثّل تحديا للمنظومة الغربية في أوكرانيا.

وإذا ما كانت مسيّرات وصواريخ إيران تستخدم في الميدان الأوكراني تحت أعين ومراقبة خبراء التسلّح الدولي، فإن طهران تستعرض عضلاتها بشكل غير مباشر أمام دول المنطقة ملوّحة بما تملكه من ترسانة عسكرية مهدِّدة لدول الجوار. وفيما يجتاح شعور في المنطقة بعدم الثقة بالمظلات الدفاعية والأمنية الأميركية، فإن من مصلحة الدول المعنيّة بأطماع إيران وعدائها اتخاذ السياسات الملائمة، بما في ذلك العسكرية والجيواستراتيجية، وتعديل خرائط التحالفات الدولية لتأمين مستوى أعلى لضمان الأمن والاستقرار.

والواضح أن الوثيقة الجديدة التي صدرت في الولايات المتحدة حول استراتيجيات الدفاع والتي قدّمها وزير الدفاع لويد اوستن، الخميس، أن تحوّلا حدث على الخرائط الاستراتيجية بحيث بقيت الصين تمثّل "أهمّ تحدّ للولايات المتحدة" وهي "تملك القدرة والنية لتغيير النظام الدولي على المدى الطويل". لكن واشنطن استعادت سردياتها السابقة حول الخطر الروسي فاعتبرت الوثيقة أن روسيا تشكل "تهديدا حاداً"، وهو تهديد قد تراجع في السنوات المنصرمة، لا بل بدا مندثرا أقرب إلى التعاون والصداقة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.

ومع ذلك فإن دخول إيران في خيار الدعم الكامل لروسيا وما تمثله من "تهديد حاد" للولايات المتحدة لم يؤدِ حتى الآن إلى تبدّل المقاربة الأمنية الأميركية حيال إيران، ولم يتجاوز خطاب واشنطن، لا سيما مبعوثها لشؤون إيران روبرت مالي، المستويات المعهودة من التصريحات والمواقف والتهديد بالعقوبات التي بات تأثيرها متقادما.

ومن يراقب المواقف الأميركية-الغربية مما يحصل في إيران من تحركات شعبية تزدادا تطورا وانتشارا منذ مقتل الشابة مهسا أميني في 16 سبتمبر، فإنه يستنتج بسهولة خلال أكثر من 40 تواضع دعم واشنطن وحلفائها لهذا الحراك. ما زالت المواقف، وفق ما يصدر من ردود فعل مستنكرة مستهجنة، دون مستوى الحدث ولا تتجاوز ما تصدره يوميا تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية.

على هذا يندرج الجهد العسكري والسياسي المنحاز إلى روسيا في أوكرانيا داخل استراتيجية تروم طهران من ورائها جرّ المنظومة الغربية إلى عدم التركيز على الوضع الداخلي في إيران والمساهمة في إشغال المنظومة الغربية بأولوياتها في اوكرانيا. ولئن لا تظهر أي خطط غربية لدعم أي تحوّل سياسي في إيران يهدد النظام، إلا أن الأخير حريص على تجنّب هذا الاحتمال وهو الذي يعرف جيداً مدى التأثير الكبير الذي أحدثه تحوّل الموقف الغربي أثناء الثورة في إيران (1978-1979) سواء في دعم الحراك الشعبي العام أو في التخلي عن الشاه آنذاك.

والواضح أن دول منظومة مجموعة الـ 5+1 ما زالت متمسّكة بروحية التواطؤ وليس التناقض مع النظام في طهران في التعويل على "فيينا" لرسم معالم تفاهمات ما بعد "الاتفاق". الأمر تكشف عنه اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل والتي ما كانت لتتم لولا صفقة بين واشنطن وطهران لن يطول الزمن حتى تظهر مصالح إيران ومنافعها منها على المستويين التكتيكي والاستراتيجي.

والواضح أن تلك السريالية وتعقّد المقاربات حيال موقف إيران الداعم العسكري المباشر لـ "الخطر الروسي الحاد" ضد أميركا، تنسحب على انخراط حزب الله في صفقة، رعتها واشنطن، يستنتج منها رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد اعترافا لبنانيا بإسرائيل، من دون أن يمنع ذلك "البزنس" الملتبس زعيم حزب الله من شنّ حملة على الولايات المتحدة واتهامها بشنّ الهجوم عبر داعش في شيراز في إيران.

إنها عدّة الشغل وأدواته.