ثمّة دوماً الحجر السادس عشر، المحتجب، الذي نصّبه كهنة الـ «زنّ» آية في المشهد، كأنّه إشارة في متن المستحضر الذي يتغنّى به هايدغر، كمحتوى ملتبس لحضورنا في هذا الوجود؛ لأن مقامنا كلّه جنسٌ من أحجية، لم يخطيء الروذباري عندما وصفها بالإشارة، التي تتستّر ما أن تتحوّل عبارة.

ففي الوقت الذي يدعونا فيه اسبينوزا لأن نتشبّث بتلابيب الطبيعة، والاعتصام بساحتها في كل ما متّ بصلة لنشاطنا الدنيوي، نتردّد في وقفتنا في حضرة الجبل الجليدي، المسمّى طبيعةً، الذي لا يُبدي سوى العُشر من شعفته، في حين تحتجب عنّا الأعشار التسعة الباقية في يمّ المجهول، لنكتشف كم هو مغامرة جسيمة حقّاً القيام بانتهاك ما استخفى في العمق من أعشار الجبل الجليدي التسعة. من هذا المنطلق صارت غزوة كالكشف مخاطرة. ولهذه العلّة أيضاً كان السحر عملاً مشبوهاً، ظلّ في عقليّة البدء مذموماً، بسبب مواهبه في تحقيق معجزة الكشف. ولهذا أيضاً استعار الساحر، في نظر الأمم، خصالاً مزدوجة. فهو تارةً بغيض، وتارة أخرى مهيب. هو بغيض بسبب جرأة السّطو على ما كان منذ الأزل قدس أقداس وهو: الحُجب. الحُجُب كمنظومة غيبيّة مسكونة لا بحمولة اللاهوت وحدها، ولكن بكل الرؤى الميثولوجيّة المتوارثة من سلفٍ إلى خلف. وهو أيضاً مهيب. مهيب بسبب الإستثناء. مهيب بسبب التفوّق. مهيب بسبب الموهبة التي تؤهّله لخرق التحريم، والعودة سالماً من رحلة خطرة كارتياد الغيوب.

هذا الإزدواج في الموقف من المخلوق الوحيد الذي آلى على نفسه أن يحترف منازلة الخفاء هو ما شكّل الإلتباس  في الرؤية نحو الكشف كمبدأ، وبلبل العلاقة مع بطل الحملة، وهو الساحر. وهو البلبلة التي بلغت الذروة في القرون الوسطى عندما استصدر المجمع الكنسي المسكوني فرمانه القاضي بتحريم السحر، لتبدأ الحملة المسعورة في حقّ كل مَن انتمى إلى هذه الحرفة المجبولة بالغموض دوماً، والدليل لا يبخل به علينا التاريخ، عندما حوكم أول روائي في التاريخ، المواطن الليبي من صبراتة «أبولّييوس» في القرن الثالث قبل الميلاد، بتهمة مزاولة السحر، فيضطر للدفاع عن نفسه بمرافعته الشهيرة (دفاع صبراتة)، في وقتٍ كانت فيه فحوى روايته الجريئة «الجحش الذهبي» وثيقةً كافية لإدانته بقياس عقلية تلك الأزمان.

والواقع أن الخشية من السحر نتيجة يبررها الفزع ممّا أخفته عنّا الغيوب عمداً. فالحجب، في عالم يدين بروح العفوية، كان دوماً عملاً حكيماً في منطق الأمم الأهليّة. وكل الممارسات الطقسيّة، المسخّرة لخطب ودّه، بما في ذلك نزيف القرابين، إنّما غايتها استحداث صيغة، تصلح نواةً لهدنةٍ مع الخفاء، غير محدّدة الصلاحية، برغم بقاء هذه الصلاحية وقتيّة دوماً، وفي حاجة لتجديد العهد في مناسبات نالت أسماء الأعياد، وذلك لاتّقاء غضبة ما استخفى!

وهو ما تكشفه لنا تقنية استخراج الكنوز من باطن الأرض، حيث تُتلى التمائم المسكونة برطانات مجهولة، وتُسفح دماء القرابين، وتمارس الرقصات الطقسيّة، لاستعطاف الطبيعة، أو الأرواح التي تستوطن الأرض، أو تسري في شرايين الخافيات، كي تلين، فتجود بعطايا هي ملكها المشروع، بحكم القدمة، أو بحكم العهد المبرم بين ملّة الإنس، وملل الجنّ.

وهو ما يعني أن أمم العالم القديم حرصت دوماً على كبح الجشع في الإستكشاف، لأنها جرّبت كم الشهوة لنيل المزيد باهضة الثمن. وهو الدرس الذي لم تستوعبه أمم الحداثة في حمّى هوسها بالحدود القصوى، فاستخرجت بعون علومٍ، نصّبت نفسها خليفةً للسحر، كنوزاً كثيرة أخرى، من الطبيعي أن يتحوّل مفعولها مع مرور الأيام في حياة الناس البيئية لعنة، كما الحال مع الذرّة، أو مع النفط، أو مع ما شابهها من غنائم نحسبها كنوزاً، ولكن الضرورة التي لا تهب شيئاً بالمجّان، تعتمدها في سجلّها كدَينٍ، يستلزم السداد طال الزمن أم قصر!